- توحي التطورات الحاصلة في الملف السوري، وخصوصا على المستوى الميداني، بأن إستراتيجية “سوريا المفيدة” (أي سوريا التي يسيطر عليها الأسد) على وشك الوصول إلى مرحلة الاكتمال العملي، وهي إستراتيجية تعتمدها إيران في سياق مخططاتها لتكوين الهلال الشيعي.
الحافلات الخضراء من وسيلة نقل إلى رمز لتهجير السوريين
لندن – عملت إيران على مدار السنوات الأولى من الثورة السورية على ترسيخ نفوذها في سوريا عبر دعم بقاء نظام الأسد متماسكا على كامل الأراضي السورية، ولكن الوضع الميداني جعل طهران تعيد حساباتها باستحالة عودة سوريا كاملة تحت نفوذ الأسد وبالتالي نفوذها، فوضعت إستراتيجية بديلة قائمة على اقتطاع جزء مهم في سوريا ليكون تحت نفوذ الأسد، تعارف الباحثون على تسميته “سوريا المفيدة”.
وتعددت التحليلات المتعلقة بهذا المصطلح؛ إذ يرى البعض أنه مقدمة لتقسيم سوريا جغرافيا وقانونيا بينما يعتبره البعض الآخر مجرد تقاسم للنفوذ.
ويقول عطا كامل، أمين عام حركة الديمقراطيين الأحرار لـ”العرب”، إن “سوريا المفيدة مصطلح اخترعه الإيرانيون في عام 2012 عندما بدت ظواهر ترنّح النظام وقررت إيران الدخول بشكل كامل في الصراع السوري ﻹنقاذ حكم أداتهم في سوريا نظام الأسد وعينهم على لبنان وحزب الله والتواصل الجغرافي الحيوي بين سوريا و لبنان حزب الله”.
ويضيف كامل “ومن ثم ظهر المصطلح ذاته في خطاب بشار أسد عام 2015 وزاد عليه أن سوريا لمن يدافع عنها، وهو تلميح إلى دعم السيناريو اﻹيراني الذي يعمل على تفريغ المدن والقرى السنية التي تقع ضمن حدود سوريا المفيدة المتواصلة مع لبنان من الغرب والعراق من الشرق عبر بادية تدمر”.
وتقول الباحثة اللبنانية حنين غدار، في دراسة نشرتها في “معهد واشنطن”، إن مشاركة الميليشيات التي ترعاها إيران بكثافة في حصار المدن السورية ثم تهجير سكانها تكشف أيضا الكثير عن مصلحة طهران في فرض السيطرة على هذه المدن، التي تقع ضمن إستراتيجية “سوريا المفيدة” و”الهلال الشيعي الأوسع”.
وتضيف غدار “إيران عملت على فرض نفوذها عبر التغيير الديمغرافي وذلك عبر نقل الأسر الشيعية من العراق إلى سوريا لإعادة ملء ضواحي دمشق التي تم تطهيرها طائفيا”.
وتعتقد غدار أن إيران وميليشياتها بالوكالة تستثمران الإستراتيجية الديموغرافية، إذ تأملان أن تعزز هذه الإستراتيجية “سوريا المفيدة”، التي تشمل السيطرة على ممر يربط المنطقة الساحلية السورية بمعاقل حزب الله في لبنان والعاصمة دمشق.
وتقول “ساهم حزب الله في عمليات التطهير العرقي بنفسه في البعض من المناطق على طول الحدود (على سبيل المثال، حملته في عام 2013 في مدينة القصير ومنطقة القلمون)، بالإضافة إلى ذلك تم إجلاء مئات الآلاف من السنة من حمص بين عامي 2011 و2014”.
ويقول عضو اتحاد الديمقراطيين السوريين إياد قدسي لـ”العرب” “لم يعد خافيا على أحد كل المحاولات التي قام بها النظام الإيراني لتشييع جزء كبير من الشعب في سوريا من خلال توسعات عمرانية أو حملات تبشيرية أو ما شابه، وأبرز تلك المحاولات مشروع أوتستراد الحسينية الذي سوق له السفير الإيراني بدمشق حسن أختري والذي كان يهدف إلى هدم أيقونة دمشقية محاذية لقلعة دمشق وللجامع الأموي وهي “منطقة سوق المناخلية”، بغية تأمين خط يصل العاصمة بمنطقة الحسينية لتخديم الحجاج الإيرانيين إلى تلك الأماكن”. ويعتبر قدسي أن إقامة “سوريا المفيدة” هي جزء من “الهلال الشيعي” الذي تطمح إليه إيران.
ويرى أن المجتمع الدولي عموما والغرب والولايات المتحدة خصوصا لم تأخذ مسألة إيجاد حل جذري وناجع لما يحدث الآن في سوريا على محمل الجدّ، ويقول “تلك المماطلة التي لا نبالغ إن وصفناها بـ’المتعمدة’ ساهمت في خلق حدود ديموغرافية جديدة في سوريا من خلال قتل وتهجير وتشريد الآلاف من السوريين إلى شتى بقاع هذا العالم، وفي إيجاد توازن أقلوي وتكريس لسايس بيكو آخر ولكن بقالب جديد”.
تغيير مذهبي
يذهب مدير المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية أنور البني إلى أبعد من فترة الصراع الحالي في سوريا خلال الثورة السورية، إذ يعتبر البني أن خطة ما يسمى “سوريا المفيدة” هي في الحقيقة خطة لإقامة “دولة علوية” وضعها الأسد كمخرج لبقائه في السلطة. ومنذ بداية 2012 ابتدأ النظام بالتمهيد لخطته بعمليات تطهير عرقي وتهجير في غرب نهر العاصي فكانت مجازر الحولة والقنيبر والتريمسة والقصير وحمص، وكان الهدف تطهير غرب نهر العاصي وتغيير ديموغرافي لتلك المنطقة”.
ويعتبر البني أن التغيير الديموغرافي وتوزيع النفوذ وصلا إلى مناطق الأكراد أيضا، ويقول البني لـ”العرب” “حاول النظام تعزيز ذلك سياسيا بدفع المجموعات الكردية التي تعمل بالتنسيق معه إلى محاولة السيطرة على شمال شرق سوريا ومحاولة فرض منطقة مستقلة عسكريا واقتصاديا”.
ويضيف “وكذلك كان هناك ضغط شديد على مدينة جرمانا قرب دمشق بعمليات تفجير وقصف لإجبار الدروز السوريين على الرحيل باتجاه السويداء ودفعهم إلى محاولة فصل المنطقة عسكريا واقتصاديا وكل ذلك تمهيدا للانكفاء والدفاع عن منطقته (النظام) مع استمرار هيمنته على بقية المناطق.
وهذه الخطة عمل عليها الإيرانيون منذ اللحظات الأولى من الثورة السورية. ولكن إيران كان لها رأي مختلف فهي تريد للنظام أن يستمر نظام الأسد في السيطرة على منطقة دمشق والقلمون لحماية حزب الله وحاضنته واستمرار التواصل الجغرافي معها وهي مصرة على استمرار التواصل الجغرافي مع العراق كذلك والحفاظ على طريق بري معه وهذا ما شتت جهود النظام بشكل كبير ومازال يقاتل في دير الزور وحلب وتدمر للحفاظ على طريق إيران، حسب تقدير البني.
ويرى البني أن هذا التوجه انقلب سلبا على خطة الأسد الأصلية حيث أنه عمليا تخلى عن سيطرته على منطقته الأساسية لمصلحة مجموعات مسلحة وعصابات وشبيحة لم تعد له عليها أي سيطرة وتخلى عن مطار حميميم وميناء طرطوس لروسيا وبالتالي أصبح أداة في يد روسيا وإيران.
ويضيف البني أنه بفعل الموقف التركي المتشدد من موضوع الدولة الكردية ودخولها عسكريا من أجل منع ذلك وعدم انجرار الدروز السوريين إلى لعبة النظام تعقدت جدا مسألة الدولة العلوية وأصبح ما يحكى عن مناطق أشبه بمناطق توزيع النفوذ الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية بين القوى الكبرى وليس الخطة التي كان يأمل فيها الأسدان، وأصبح من يسمى حاكما على هذه المناطق مجرد تابع لا أكثر ولا أقل لصاحب السيطرة، وتكمن المشكلة في أن العالم الغربي -وعلى رأسه أميركا- انجر إلى هذه اللعبة وبدأ بالدخول لتحديد مناطق نفوذ الغرب مستغلا تنظيم داعش والتطرف كعنوان مثير لذلك”.
ويؤكد البني أن المسألة ستبقى مجرد مناطق نفوذ مؤقتة لقوى كبرى أكثر من كونها تقسيما يمهد لاتفاق دولي يلغيها ويتخلص من اللاعبين المحليين وهذا لا يمكن أن يحدث في ظل وجود أوباما في السلطة لأنه لا يريد إنهاء معاناة الشعب السوري وإنهاء هذه المأساة ليحافظ على وجود دوره في المنطقة دون أن يفعّله لإنهاء هذه المأساة.
بينما يرى الناطق الرسمي لتيار الغد منذر آقبيق أن مفهوم “سوريا المفيدة” يندرج في إطار نظريات المؤامرة، ويقول آقبيق لـ “العرب” “أنا لا اعتقد بأن أيا من الأطراف الدولية والإقليمية المنغمسة في الشؤون السورية يعمل من أجل التقسيم، ولكنها حتما تعمل من أجل ضمان مصالحها في سوريا على المدى الطويل”.
بالنسبة لإيران، من أهم أهدافها في سوريا الحفاظ على نظام الأسد، لأنه ببساطة خاضع لنفوذها مما يرضي أحلامها الإمبراطورية، حسب تعبير آقبيق، الذي يضيف “كذلك الحفاظ على حزب الله في لبنان وخطوط إمداده التي تمتد من الساحل إلى القلمون، أي معظم المناطق الغربية من سوريا. وبالتالي فإن دخول حزب الله في الحرب على الشعب السوري كان بداية لتأمين تلك المناطق، وهو يسيطر الآن على الشريط الممتد من تل كلخ إلى القصير وصولا إلى القلمون والزبداني. والأهمية الاستراتيجية لتلك المناطق بالنسبة لإيران، ووضعها كأولوية لا يعنيان بالضرورة تخليها عن مساعدة الأسد في محاولة استعادة المناطق الأخرى، ودليل ذلك انخراط حزب الله والميليشيات الإيرانية الأخرى بكثافة في معركة حلب التي تعتبر بعيدة جغرافيا عن خطوط إمداد حزب الله”.
ويعتبر آقبيق أن هناك تقسيما حاصلا حاليا بمثابة أمر واقع، بين مناطق تحت سيطرة داعش، ونظام الأسد وحلفائه والمعارضة والقاعدة، وحزب “ب ي د”. ولكنه تقسيم في أجواء الحرب. ولا يعتقد أن التقسيم سوف يكتسب صفة قانونية أو اعترافا دوليا باستقلال أي منطقة أو جزء منها، معتبرا أن “الاستنتاج الأكثر منطقية هو أن البلاد سوف يعاد توحيدها، بعد تحقيق الانتقال السياسي في دمشق، والقضاء على الإرهاب، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ذلك سوف يستغرق وقتا”.
يرى الدبلوماسي السوري خالد الأيوبي أن “سوريا المفيدة” التي تريدها إيران هي المساحة الجغرافية الغنية بالموارد الاقتصادية كالنفط والغاز والزراعة والمياه والمعابر البرية والبحرية، إضافة إلى حاضنة شعبية تدين بالولاء الطائفي. وهذه المناطق تتمتع بطبيعة جغرافية يسهل الدفاع عن أغلبها دون تكبد خسائر بشرية كبيرة.
ويقول الأيوبي لـ”العرب” “قامت إيران بعمليات حصار للمناطق التي لا تدين بولاء طائفي وتوجد في منطاق مختلطة أو مناطق مجاورة للعاصمة التي تمثل الشرعية القانونية للنظام وهذا الحصار بدأ في حمص وريفها لأهمية موقعها الاستراتيجي الذي يربط بين مختلف المناطق السورية وتمت عمليات تطهير عرقي برعاية دولية للكثير من مناطق حمص. وتكرر الأمر في الزبداني ويتواصل في مضايا وتم تطهير داريا من سكانها قرب دمشق لأهميتها الاستراتيجية في أمن عاصمة النظام”.
ويرى الأيوبي أن التقسيم قد يصل إلى مستوى رسمي ودولي، ويقول “جميع التحركات والتسريبات والتصريحات تلمح إلى التقسيم وقد كررها كيري عدة مرات وهذا يدل على نية أميركية روسية مبيتة للتقسيم وبالتالي تريد روسيا تأمين أفضل البقع الجغرافية في سوريا لخلق كيان طائفي موال لها ويحمي مصالحها وقابل للحياة، ولا سبيل لذلك إلا بالسيطرة على المناطق الحيوية في سوريا والفارغة من أي وجود بشري مناهض للمصالح الإيرانية الروسية”.
ووفق تقدير العميد الركن مصطفى أحمد الشيخ تولت إيران رسم الدولة المفيدة منذ بدء معركة القصير، وما يخيفها أن تنفصل سوريا عن ذراعه حزب الله في لبنان.
ويقول الشيخ لـ “العرب” “ما دام النظام لا يمتلك الإرادة ولا الإمكانات ليدافع عن وجوده فبحكم المنطق أن تتولى إيران مصير سوريا الذي أدركت أنه من المحال عودة الأسد بالسيطرة على كامل سوريا وعلى المكون السني تحديدا، وما زاد الأمر سوءًا التدخل الروسي الذي يبدو متجانسا مع الدور الإيراني، والسكوت الدولي عن دور إيران جاء نتيجة تواطؤ إدارة أوباما مقابل الصفقة النووية”.
ويضيف العميد الركن أن هناك تناقضا بين الموقف الواحد لدى أميركا؛ ففي حين تعتبر حزب الله منظمة إرهابية إلا أنها لم تتلفظ ولو بكلمة واحدة عن تدخله بسوريا، ناهيك عن تسليم العراق بعد غزوه إلى إيران على طبق من ذهب.
ويقول الشيخ “الحقيقة الواضحة أن أميركا تسعى بقوة إلى التقسيم وكذلك إيران وروسيا، بل تحاول هذه الدول الثلاث أن تفجر الصراع في الخليج العربي وكل الدول العربية دون استثناء”..
وتعتقد الباحثة حنين غدار أن إيران لن تغير هذه الخطة بسهولة، بغض النظر عما توافق عليه الولايات المتحدة وروسيا، وذلك للحجم الكبير من الأموال التي صرفت ورأس المال السياسي الذي أنفق بالفعل في سوريا.
وتختتم حنين بالقول إن أي حل لا يأخذ بعين الاعتبار مخاطر الهيمنة الإقليمية الإيرانية لن يكون ناجحاً، لا سيما إذا بقي الأسد في السلطة. فأغلب سكان المنطقة هم من السنة، ولن يرحبوا باحتمال استعادة النظام “الطائفي الإجرامي السيطرة على سوريا، ولا بـ”الهلال الشيعي الإيراني” الذي يحيط العديد من البلدان.
وتضيف “وفي ظل هذه الظروف، ستتسع الانقسامات الطائفية أكثر فأكثر، وقد يتحول المزيد من السنة نحو الجماعات المتطرفة التي تَعِد بحلول أكثر دموية. فـتنظيم “الدولة الإسلامية” و”جبهة فتح الشام”، سيبقيان موجودين على الأرجح بشكل أو بآخر، مما سيغذي التهديدات الإرهابية الدائمة داخل هذه الدول التي يهيمن عليها الإيرانيون”.
العرب غسان إبراهيم