كما في كل هجوم يسبق سقوط مدينة استراتيجية في إدلب، ظلت آمال الكثير من الناشطين والمعارضين في سوريا، معلقة على «الضامن التركي» في وقف تقدم النظام، وكما في خان شيخون، وقبله في اتفاق التهدئة الروسي التركي في إدلب، يتم تضخيم فكرة الـ»قشة» التركية المنجية من غرق المزيد من مناطق المعارضة، في ظاهرة تبدو أقرب للإدمان على التعلق بمنقذ، وإن أشارت كل التجارب الماضية والحاضرة، لعدم نجاعة هذه المقاربة، التي تصر على أن تركيا «لن تسمح بسيطرة النظام على إدلب» .
وإذا عدنا قليلا، للفترة التي سبقت سقوط البلدة الاستراتيجية الأخرى في إدلب، خان شيخون، التي قاد سقوطها بيد النظام لسلسلة ضياع معرة النعمان، وصولا لسراقب، سنجد أن الأخبار المزيفة والمسيسة، والتحليلات الدعائية، كانت تنصب على وجود تدخل تركي سينقذ خان شيخون، وإن التعزيزات التركية التي دخلت لإدلب، ذهبت لإنقاذ خان شيخون من براثن النظام، كما تردد حينها حديث عن دور نقاط المراقبة التركية الجديدة حول خان شيخون في إعاقة تقدم النظام، قبل أن يسيطر النظام عليها، والسيناريو نفسه عن توقع التدخل التركي، وبث أخبار مفبركة وتحليلات غير رصينة، تتحدث عن دخول تعزيزات تركية تهدف لمواجهة النظام، ووقف تقدمه، وكأن نقاط المراقبة التركية الأربع المحاصرة منذ أسابيع بمناطق النظام، تمكنت من فعل شيء أصلا، حتى تتمكن التعزيزات من مواجهة النظام، حتى أضيفت ثلاث نقاط مراقبة تركية جديدة لسيطرة قوات النظام، بعد السيطرة على سراقب، هذه النقاط التي أثارت «جعجعة» حولها، باعتبارها مصممة لمنع تقدم النظام نحو سراقب، وكأن طبيعة التواجد التركي في إدلب، ضمن تفاهمات محددة مع روسيا، يسمح بدور لتركيا، وكأن هناك من لا يعلم أن كل البيانات العسكرية الرسمية التركية، تقول بأن كل تحركات ونقاط المراقبة التركية ثبتت إحداثياتها بالتنسيق مع روسيا مسبقا، ورغم ذلك، عندما بدأت أنقرة بنشر المزيد من النقاط، تعرضت لضربة من النظام، خسرت فيها تركيا 8 جنود، وصفها أردوغان نفسه بـ»الصفعة»، وكانت بالفعل ضربة مؤلمة للجيش التركي في سوريا وللمعولين على دوره داخل سوريا، فبينما كانوا يتحدثون عن تعزيزات تركية لتشكيل ثلاث نقاط مراقبة بسراقب، لوقف تقدم النظام، فاذا بـ8 جنود اتراك يسقطون قتلى، وإذا بهذه التعزيزات نفسها تصبح تحت الحصار من قبل النظام بعد السيطرة على إدلب. حتى الأنباء التي شاعت عن قصف تركي لمواقع النظام لمنعه من التقدم لسراقب، كانت غير صحيحة، واستندت لمصدر من المعارضة القريبة من تركيا، ورغم نشر الخبر نفسه من موقع سوري راصد، إلا أنه نقل عن المصادر نفسها، ذلك أن كل المواجهات التي وقعت بين تركيا والنظام، كانت متعلقة بالرد على حوادث محددة، كحادثة مقتل الجنود الاتراك الثمانية، وهذا كله ضمن «قواعد الاشتباك»، ولا تدخل في إطار منع تقدم قوات النظام، ولا دعم هجوم ضدها، وعلينا أن نتذكر أن العملية التي شنتها مجموعة من «الجيش الوطني» الموالي لتركيا قرب مدينة الباب، التي أطلق عليها «العزم المتوقد»، ودخلت فيها عناصر الجيش الوطني لقريتين قرب الباب، استمرت لساعتين فقط، شملت آلاف التغريدات، وصورا حماسية بـ»الدعس» على العلم الروسي، ومن ثم انسحب الفصيل الموالي لتركيا، من القريتين، وخبت نار «العزم المتوقد» بساعتين فقط!
ظلت آمال الكثير من الناشطين والمعارضين في سوريا، معلقة على «الضامن التركي» في وقف تقدم النظام
من الواضح أن قدرة تركيا على العمل خارج تفاهماتها مع روسيا تبدو محدودة للغاية، فروسيا هي التي سمحت لها بالدخول لإدلب، وروسيا حولت الموقف التركي في سوريا، للتماهي مع سياسات إعادة شرعنة الأسد، وتحديدا بعد اعتذار أردوغان لبوتين بسبب إسقاط الطائرة الروسية، ومنها تراجع الموقف التركي معترفا بمحدودية إمكانياته في سوريا، مقابل التعاون بالملف الكردي، الذي لم تحصل فيه تركيا أيضاعلى الكثير، خصوصا بعد اتفاقين مع أمريكا وروسيا ، لم تتحقق فيهما أي تعهدات بسحب الأكراد من شمال سوريا، رغم الحملة الإعلامية أيضا التي رافقت هذين الاتفاقين، باعتبارهما نصرا لسياسات انقرة، قبل أن يتبين أن الطرفين الروسي والامريكي هما من حققا فقط اهدافهما من الاتفاق، فقام الروس بإدخال قوات من النظام السوري لمنبج، وغيرها من المواقع شمال سوريا، وحققت واشنطن وقفا فوريا للعملية التركية، بينما لم تحصل تركيا على المطلب الرئيسي، الذي نصت عليه الاتفاقيتان، وهو انسحاب الاكراد من شريط الـ 440 كيلومترا الحدودي، وهذا يدل بوضوح على ضعف النفوذ التركي في سوريا، مقابل نفوذ موسكو وطهران كقوى إقليمية، ويذكرنا ذلك بأن تدخل أنقرة في سوريا كان دائما محكوما بموافقة صريحة من طرفين تحكما بالسيطرة في سوريا، هما موسكو وواشنطن، قبل انسحاب معظم قواتها من شمال سوريا، وهو انسحاب سيتواصل حتى خروجها النهائي من سوريا مستقبلا.
من يعول اذن، على دور تركي في سوريا، عليه أن لا يبالغ في الإمكانيات التركية بالسياسة الخارجية في المشرق العربي، فبنية النظام السياسي التركي، وطبيعة تحالفاته المحلية في العراق وسوريا، لا تؤهله للعب دور كبير في هذين البلدين، مقارنة بإيران مثلا، فعلى سبيل المثال، وبمقاربة ميدانية محلية، يتبين أنه رغم وجود قوات تركية على الأرض في سوريا، بموافقة وتنسيق مع روسيا أو امريكا، إلا أن الفصائل السورية الحليفة لأنقرة ليس لديها إمكانيات قتالية عالية، ولا انضباط إداري يمكنها من تحقيق تقدم عسكري، بدون وجود الجيش التركي لجانبها، مقارنة بالفصائل الجهادية كتحرير الشام غير الخاضعة لانقرة، والمصنفة إرهابية لديها، وإن احتفظت بعلاقات تنسيق من باب الندية، وليس الارتباط والدعم، كما الحال مع فصائل درع الفرات و»الجيش الوطني»، وسلوك هذه الفصائل المرتبطة بتركيا، وتجاوزاتها من سرقات وانتهاكات في المناطق التي تسيطر عليها تركيا في درع الفرات وغصن الزيتون، يشي بأنها غير مؤهلة لامتلاك زمام أمورها، بدون وجود الجيش التركي، بينما وبالمقارنة مع محور طهران، تمكن حلفاء إيران في سوريا من ميليشيات عراقية وافغانية ولبنانية، وايضا قوات النظام، من تحقيق تقدم عسكري، بدون وجود اي قوة عسكرية ايرانية إلى جانبهم.
والمطلع على كواليس وتسريبات بعض الاجتماعات التركية الرسمية، سيجد أن هناك استياء كبيرا من سلوك هذه الفصائل الحليفة في مناطق درع الفرات وتذمرا من ضعف إمكانياتها القتالية. لكن هذا لا يعفي أنقرة ايضا من مسؤوليتها، فيما يتعلق بإدلب، ورغم أن تركيا ليست ملزمة بالنهاية بالتضحية بمصالحها وجنودها في سبيل بلد اخر كسوريا، إلا انها ارتضت كدولة، أن تكون راعية وضامنة لأربع مناطق خفض تصعيد في سوريا، في ريفي دمشق وحمص ودرعا، سقطت ثلاث منها والرابعة في إدلب على الطريق، وهذا مثال جديد على محدودية القدرة التركية وسوء تقدير سياساتها في ملفات العراق وسوريا، والأخطر من ذلك، أن تصريحات مسؤوليها المتضخمة بالتهويل، وآخرها تصريحات الرئاسة التركية، التي أكدت عدم السماح بتقدّم النظام، والمطالبة بوقف هجماته وانسحاب النظام لما قبل حدود اتفاق أستانة، وكذلك التصريحات السابقة منذ بدء الثورة، بعبارات مثل «دمشق خط أحمر وحلب خط أحمر»، كل هذه المواقف والتصريحات الرسمية، وضعت المصداقية الرسمية للحكومة التركية موضع شك واتهام، تصل لمرحلة اتهام تركيا بالتواطؤ مع روسيا لإسقاط إدلب، وهذا بالطبع غير صحيح، ومجرد قوالب يرددها العقل نفسه المتخبط بين التعويل على المنقذ التركي في الصباح والاتهام بالتواطؤ لإسقاط إدلب في المساء! بدون النظر بموضوعية للإمكانيات المحدودة لتركيا في سوريا، وأيضا لمدى اولوية إدلب مقارنة بالمناطق الكردية بالنسبة لأنقرة، ومدى القدرة التركية على تنفيذ سياساتها بدون تكلفة كبيرة، بوجود قوى منافسة لها تمتلك السيطرة الاكبر في سوريا كموسكو وطهران.
ولكن تساؤلات عديدة تعود لتطرح من أجل تفسير مأزق تركيا في سوريا، فكيف يمكن لأنقرة أن تكون جزءا من أستانة في سوريا، بالشراكة مع حلفاء النظام الحربيين، طهران وموسكو، وفي الوقت نفسه انتظار نتائج تفضي لغير تمكين النظام في سوريا؟ وكيف اعتقدت أنقرة أنه يمكنها الدخول في اتفاق كاستانة التي تعمل صراحة على تمكين «الدولة السورية» من استعادة أراضيها، وقامت بإدخال قواتها ضمن هذا التفاهم، وإطلاق تصريحات تركية رسمية لأكثر من مرة ترحب حينا، ولا تمانع حينا بـ»استعادة الدولة السورية السيطرة على اراضيها» ومن بعد كل هذا من التماهي مع السياسة الإيرانية والروسية، تقوم بمطالبة روسيا بوقف هجوم النظام ويمكن لنا أن نطرح سؤالا فنيا هنا، يتعلق بنقاط المراقبة التركية، إذ يبدو من الغريب الإصرار التركي على إبقاء نقاط المراقبة التركية، التي لا تقوم بعملها أصلا في منع الخروقات على منطقة خفض التصعيد في إدلب، فما بالنا ونحن نتحدث عن حصار هذه النقاط، ولعل هذا المصير الذي تحدثنا عنه منذ أكثر من عامين، كان متوقعا منذ أن بدت هذه النقاط بلا فعالية، حتى قبل بدء الهجوم على إدلب، عندما كان النظام يقصف قرى وبلدات إدلب بشكل منهجي، بوجود هذه النقاط التي ظلت «تراقب» .
من الواضح أن جل الاهتمام التركي ينصب على الخوف من تدفق اللاجئين السوريين من إدلب لاراضيها، وليس من تقدم النظام لاستعادة السيطرة، وأبسط دليل على ذلك، أن أنقرة لم تعترض تقريبا على سقوط ثلاث مناطق خفض تصعيد في ريفي دمشق ودرعا وحمص، هي اكثر أهمية استراتيجية من إدلب، بينما علت النبرة التركية معارضة لهجوم إدلب، خوفا من خطر تدفق اللاجئين على حدودها، رغم أن من المفترض أن تخشى من تقارب بين علويي انطاكيا العرب، مع النظام السوري ذي الهيمنة العلوية، حال سيطر النظام على الطرف السوري من الحدود، المطل على محافظة هاتاي/انطاكيا، ولكن يبدو أن الأمن القومي التركي لا يرى بالعلويين تهديدا لضآلة حجمهم السكاني، مقابل التهديد الكردي على الجانب الآخر من الحدود التركية السورية، التي جاهدت تركيا من أجل إنشاء منطقة عازلة من اللاجئين العرب لمنع اتصال السكان الأكراد جنوب تركيا، مع القوى الكردية الانفصالية شمال سوريا، وهو المشروع الآخر الذي ظل يدور في إطار التمنيات، مشروع «المنطقة الآمنة التركية» شمال سوريا، وهو مثال اخر على التقديرات غير السليمة لمسارات النزاع السوري، المعتمد على التعويل المبالغ فيه على «القشة» التركية المنقذة من الغرق، بدلا من التفكير بصناعة قارب نجاة!
نقلا عن القدس العربي _ وائل عصام