عماد غليون – زمان الوصل
إسقاط النظام لا يمكن أن يتم بالفعل سوى بإسقاط أجهزته الأمنية وإعادة تأهيل الجيش من جديد وفق أسس وطنية، هذا ما أدركه الثوار والناشطون منذ البداية.
مع التغير في المواقف الدولية وعدم القبول بالحسم العسكري، واعتبار الحل السياسي هو الخيار الوحيد المقبول، بحجة الحفاظ على مؤسسات الدولة من الانهيار.
بدأ الحديث يدور عن إعادة تأهيل وهيكلة لأجهزة الأمن المختلفة، وظهر ذلك لأول مرة في وثيقة الحل السياسي التي قدمها الائتلاف الوطني خلال مؤتمر جنيف2.
هل يمكن بالفعل تحييد المخابرات وإبعاد الكابوس الرهيب الذي عاشه السوريون بسببها، خلال العقود الأربعة الماضية على وجه الخصوص؟
كل سوري بالضرورة له قصته الخاصة مع أحد فروع المخابرات على الأقل المنتشرة على مساحة البلاد، وتحت مسميات واختصاصات مختلفة لكنها تلتقي على هدف أساسي هو الحفاظ على الحكم والنظام واللجوء لكافة الوسائل والأساليب التي تضمن ذلك.
تتدخل المخابرات في أدق تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين وفي طرق وآليات عمل المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية المختلفة بشكل يجعلها تدير البلاد بشكل خفي وشبه كامل، ولا تترك سوى هامش محدود لا يهدد النظام للحرية الشخصية أو لعمل مؤسسات المجتمع المدني المختلفة رغم انتشارها بكثرة في البلاد.
يحتفظ السوريون بصورة نمطية غير محببة لرجال المخابرات واعتبارهم مصدرا لمصيبة قادمة، ويشكل وجودهم إنذارا سيئا بالخطر أو التعرض للابتزاز ودفع الرشوة، ويقومون بالظهور العلني بشكل مقصود لإخافة الناس عبر الأجندات القديمة المهترئة التي يحملونها تحت إبطهم، والستر الجلدية السوداء التي يلبسونها والدراجات النارية التي يركبونها بأصوتها المزعجة؛ ويكفي ظهور عنصر مخابرات في شارع أو مكان ما لإحداث تغيير في الأحاديث أو النشاطات المتداولة رأسا على عقب لإبعاد إمكانية تفسيرها كنشاطات معادية للنظام.
عناصر المخابرات ينتشرون في كل مكان في المراكز الثقافية ودور العبادة والأسواق والملاعب والمطاعم والمقاهي والشوارع ودور اللهو بشكل يجعل المرء يحتار ولا يعرف ما الذي يعجب النظام ويرضيه وما الذي يغضبه حتى يلائم نفسه مع ذلك.
رغم ادعاءات النظام بالمقاومة والممانعة، لكنه لم يكن يقبل بترخيص أنشطة أو اعتصامات خاصة للتعبير عن ذلك دون أن تكون تحت إمرته وتحت شعاراته وراياته، ويتم تجيير كافة الأنشطة الحزبية والسياسية والنقابية والاجتماعية والدينية للدعاية للنظام وإلصاق كافة الإنجازات له بينما الإخفاقات سببها المؤامرة المستمرة على النظام بسبب مواقفه في الصمود والتصدي.
مع بدابة حكم بشار الأسد شاعت حالة من التفاؤل في الأوساط السياسية والثقافية والشعبية بإمكانية حدوث تغيير في البلاد. وبالفعل تم إلغاء الكثير من الموافقات الأمنية المطلوبة لمحتلف الأنشطة وانتشرت منتديات المجتمع المدني مع ما سمي ربيع دمشق وصدرت التعليمات لأجهزة الأمن بعدم التدخل في عمل مؤسسات الدولة المختلفة، ولكن كل الآمال تلاشت وعاد النظام لسيرته القمعية الأولى، عندما شعر أنه المستهدف من وراء نشاطات المجتمع المدني، وعاد رجال المخابرات يمارسون الترهيب والترغيب وينشرون الفساد بسلوكهم والإفساد بتحالفاتهم مع طبقة طفيلية جديدة تصدرت المشهد الاقتصادي والاجتماعي في البلاد عبر صفقات وممارسات وعقود فاسدة يتم تغطيتها من أجهزة المخابرات أو حتى من خلال العمل في الممنوعات من تهريب وتهرب ضريبي ومخدرات وكل ذلك بشراكة مع كبار المسؤولين الكبار.
رغم ما يظهر من بدائية على سلوك وعمل أجهزة مخابرات النظام، إلا أنها في الواقع استطاعت تحقيق الهدف الأساسي لها وهو حماية النظام من الداخل على مدى عقود، وأنقذته من التحديات الخارجية، خاصة عندما باتت القوات الأمريكية على حدود البلاد بعد احتلالها العراق، وساعدته في ذلك الملفات الأمنية الخطيرة التي قدمتها مخابرات النظام عن عناصر القاعدة الذين كانت هي نفسها تساهم في مرورهم باتجاه العراق لمحاربة الأمريكيين.
يتصف عمل أجهزة مخابرات النظام بأمرين أساسيين: الأول أنه لا يستند لأي أسس أو مبادئ أخلاقية أو قانونية أو حتى وطنية وكان دورها محصورا في الحفاظ على النظام، وتحول للحفاظ على الحكم والطبقة الحاكمة الضيقة. والثاني إنها قامت بتخريب النسيج الاجتماعي في البلاد عبر زرع الشك وعدم الثقة بين أقرب الناس من خلال نظام المخبرين والتقارير والوشايات التي تشجع عليها.
مع بداية احتجاجات درعا أطلت بثينة شعبان لتعلن جملة من الأشياء التي كانت تبدو غريبة وقتها، وعلى الأخص قولها بأن ما يجري هو أعمال إرهابيين وغرباء يريدون فرض إمارات إسلامية سلفية عبرالعنف والطائفية، فهل كان كلام شعبان مصادفة أم تم التخطيط والوصول له من قبل أجهزة المخابرات نفسها كما ظهر فيما بعد حيث اتضح دور المخابرات في تحويل الثورة عن مسارها السلمي وتحويلها باتجاه العسكرة والعنف.
لم تتناول وثيقة الحل السياسي للائتلاف طريقة تأهيل أجهزة الأمن والجيش وإمكانية تحقيق ذلك بالفعل، ومن الملاحظ والمستغرب أنه لم يعد يتم التطرق لذلك في الاجتماعات والمؤتمرات التي تسعى لحل سياسي في البلاد.
من شبه المستحيل تصور بقاء أجهزة المخابرات أوحتى إعادة تأهيلها وقبول السوريين بذلك لسببين: الأول هو دورها السيئ خلال الثورة في تصفية واعتقال وتعذيب الناشطين وترهيب المدنيين وابتزازهم واختراق صفوف الجيش الحر والمعارضة، فلا يمكن تصور بقاء مسؤول أو عنصر أمني دون أن يقوم بارتكاب جريمة ما بحق الشعب السوري، ولا يمكن التغاضي عن ذلك حتى ضمن مبادئ العدالة الانتقالية.
أما السبب الثاني فيتعلق بالدور التاريخي السيئ الذي لعبته أجهزة المخابرات ضد المصلحة الوطنية والصورة النمطية السيئة عنها وسيطرتها على الأذهان وتغلغلها في الصفوف، بحيث تستطيع إدارة البلاد بالخفاء عبر ما يسمى الدولة العميقة وإعادة إنتاج النظام من جديد كما حصل في دول الربيع العربي الأخرى.
لم يخرج السوريون من فوبيا مخابرات النظام بعد، ولا تزال تلاحقهم في كل مكان، فكيف يمكن تصور أي حل في البلاد مع بقاء تلك الأجهزة، ولكن هل من السهل والممكن بناء أجهزة وطنية جديدة؟ أسئلة برسم من يبحثون عن حلول سياسية فهل لديهم إجابة؟