أيّا كان الموقف الروسي من عملية اغتيال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، وأبومهدي المهندس، نائب قائد الحشد الشعبي العراقي، على يد القوات الأميركية فجر الجمعة قبل الماضية، في بغداد، إلا أن العملية الكبيرة، بهذا المستوى من الخطورة، فاجأت موسكو، وأقلقتها على مصالحها في المنطقة، كونها غير متوقعة.
فأولا، روسيا تخشى من تبعات هذا الاغتيال، والتي لا يمكن التكهّن بتفاصيلها، ومن عمليات الكرّ والفرّ، الإيرانية الأميركية، التي سيكون العراق مسرحها، وقد تمتد إلى دول الجوار؛ فقد عززت القوات الأميركية مجدداً تواجدها في محيط حقل الغاز “كونيكو”، مع انتشار مكثف لعناصر من قوات سوريا الديمقراطية، وتسيير رتل أميركي في الريف الشرقي لدير الزور بغطاء من الطائرات المروحية، ما يعني عدم نية أميركا التراجع عن سيطرتها على حقول النفط والغاز، واستمرار دعمها لقوات سوريا الديمقراطية، الأمر الذي يعطل المساعي الروسية للتوصل إلى اتفاق بين حكومة دمشق وقوات سوريا الديمقراطية.
وثانياً، أن عملية نوعية، وبحجم اغتيال الشخصية الثانية في إيران، بعد علي خامنئي، ومهندس التوسع الإيراني في الشرق الأوسط، توجه رسالة قاسية إلى موسكو، بأن منافستها واشنطن قادرة على الهيمنة على العالم، رغم اعترافها بالدور الروسي في سوريا، كفاعل أول في مجمل الواقع السياسي والعسكري.
وثالثا، أن سليماني هو من دعا موسكو إلى التدخل العسكري في سوريا، خريف 2015، وأن هناك مصالح روسية إيرانية مشتركة، بعضها يتعلق بالجانب العسكري الميداني، حيث تشارك إيران بميليشياتها غير النظامية، في المعارك على الأرض السورية، وطهران شريكة موسكو وأنقرة، في مسار أستانة، الذي انطلق في مايو 2017.
ورغم الصمت الروسي على الغارات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سوريا، ورغم المنافسة الاقتصادية في تحصيل الاستثمارات، حيث طردت موسكو طهران من قطاع الفوسفات السوري في يونيو 2018، إضافة إلى الاحتكاكات المستمرة، إلا أن روسيا تتشارك مع إيران في الرغبة بالحد من الهيمنة الأميركية في المنطقة؛ وفي يونيو الماضي، دافعت روسيا عن الوجود الإيراني في سوريا، خلال قمة أمنية أميركية روسية إسرائيلية في القدس.
وبالتالي ضعف إيران سيؤثر سلبا على موسكو، والتي عليها العمل بحذر وحنكة، لتجنب مخاطر توسع الصراع ليشمل الأراضي السورية واللبنانية ومنطقة الخليج العربي.
لطالما سعى فلاديمير بوتين، القيصر، إلى بناء الإمبراطورية الروسية، المهيمنة في الشرق الأوسط، مستغلاً تراجع الدور الأميركي فيها. فقد كانت غاية زيارة بوتين إلى دمشق، المفاجئة، هي التأكيد على الهيمنة الروسية على سوريا، وأنها اللاعب الأساسي فيها، بعد الاستفزاز الأميركي لروسيا والعالم، إثر عملية اغتيال سليماني. ويبدو أن الزيارة تقررت على عجل، على هامش زيارته المخطط لها إلى أنقرة، لتدشين مشروع خط السيل التركي “ترك ستريم”، لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا، عبر بحر البلطيق، دون المرور بأوكرانيا.
فقد استدعى بوتين الأسد، بشكل مفاجئ، ودون إخطار مسبق حسب ما تقتضيه الأعراف الدبلوماسية، إلى مقر القوات المسلحة الروسية في دمشق، حيث يغيب فيه رفع العلم السوري، في دلالة رمزية على تبعية سوريا للاحتلال الروسي، ولإظهار الأخير بمظهر المهيمن والمسيّر للنظام ورئيسه.
وليست زيارة دمشق على نحو مهين لنظامها، وتدشين مشروع أنابيب الغاز في تركيا، كل ما أنجزه بوتين في رحلته الأخيرة؛ فقد عقد قمة ثنائية مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وتوصلا فيها إلى هدنة في إدلب لمدة ستة أشهر، من أجل تنفيذ اتفاق سوتشي، المبرم في سبتمبر2017، حول المنطقة منزوعة السلاح، والخالية من الجهاديين، وفتح الطرق الرئيسية.
تأخذ موسكو على أنقرة تقاعسها في حسم ملف الجهادية، باعتباره مهمة تركية، بسبب النفوذ التركي ضمن فصائل المعارضة العاملة في إدلب، وأنها دجنت فصائل في ريف حلب الشمالي، ويمكنها الزج بها في معركتها ضد الجهاديين.
حشد النظام قواته في أطراف حلب، بأمر روسي، من أجل الهجوم في حال عدم تنفيذ الاتفاق بفتح الطرق الرئيسية. في حين أن تركيا سمحت لـ1500 مقاتل من “الجيش الوطني” المعارض، العامل في ريف حلب الشمالي، والتابع لتركيا، بالقدوم إلى منطقة إدلب، والمشاركة على الجبهات مع قوات النظام والميليشيات الإيرانية؛ حيث سيعمل الجيش الوطني تحت قيادة “الجبهة الوطنية للتحرير” المشكّلة من الفصائل المعارضة العاملة في إدلب.
يبدو أن الحل التركي لمعضلة الجهاديين تمثل في إرسال هؤلاء، خاصة المنحدرين من تركستان والأوزبك، ومتشددي هيئة تحرير الشام، إضافة إلى المتطوعين السوريين العاملين في فصائل تابعة لتركيا، للقتال في ليبيا إلى جانب حكومة الوفاق. هذا يعطي فرصة أكبر للمضي في تنفيذ بنود سوتشي، وتحقيق خطوة في حسم ملف إدلب، الأمر الذي يعتبر بدوره إنجازا لروسيا، بعد أشهر من القصف الدامي والتهجير.
هناك خلافات روسية تركية، في الملف السوري أولاً، خاصة في إدلب، واستمرار رفض أنقرة للمساعي الروسية للحوار مع دمشق وعودة التطبيع، ورفضها بقاء الأسد في السلطة. وثانياً، الاصطفافات المتعاكسة في الملف الليبي، حيث تدعم موسكو قوات المشير المتقاعد خليفة حفتر في محاصرتها للعاصمة طرابلس، ضد حكومة الوفاق التي تدعمها تركيا.
إلا أن حجم التقاء المصالح بين الطرفين كبير؛ فتدشين مشروعي أنابيب الغاز الروسية إلى أوروبا، عبر تركيا، يعني هيمنة روسية على توريد الغاز إلى أوروبا، هذا عدا عن صفقة المنظومة الدفاعية أس – 400 الروسية المقدمة إلى تركيا، بالضد من المنظومات الدفاعية التي يقدمها حلف شمال الأطلسي، حيث لا ثقة لتركيا بأميركا والغرب، كونها لم تقف إلى جانبها في تهدئة مخاوفها الأمنية من خطر الوحدات الكردية.
في الأثناء فإن روسيا تراكم الإنجازات باتجاه الهيمنة على سوريا، والدخول إلى الملف الليبي، وتأمين مصالح لها في العراق ولبنان، وربط علاقات اقتصادية وطيدة مع المملكة العربية السعودية وعموم دول الخليج، ودعم إيران التي باتت ضعيفة على إثر العقوبات الاقتصادية، وعلاقات قوية مع إسرائيل، عبر صداقة شخصية مع رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو؛ ورغم الإنجازات المهمة مع الجانب التركي، سواء في المشاريع الاقتصادية أو في ملف إدلب، إلا أن بوتين أصر على زيارة رمزية لدمشق وإهانة نظامها، لتأكيد المؤكد، وبشكل مفاجئ، يبدو وكأنه رد فعل على مخاوفه من عظمة الهيمنة الأميركية المتمثلة في عملية اغتيال قاسم سليماني.
نقلا عن صحيفة العرب