في خمس سنوات، استخدمت روسيا حق النقض خمس مرات لإنقاذ نظام بشار الأسد في مجلس الأمن الدولي، لكنها استغرقت أربع سنوات ونصف السنة من التردد حتى قررت التدخل بشكل مباشر في سوريا، بطائراتها وأساطيلها المتحفزة في البحر المتوسط.
مضى أكثر من عام بقليل على تدخلها المباشر، دون تحقيق نتائج ترجح كفة النظام على الفصائل المعارضة المسلحة، أو الفصائل السياسية.
مع ذلك، لا يزال لدى روسيا بعض الوقت في الأشهر القليلة المقبلة، فالأمم المتحدة، والولايات المتحدة، بطتان عرجاوان في ما تبقى من ولايتي رأسيهما. كما أن الرهان على موقف الرئيس الأميركي المقبل، أو المرشح الأبرز للأمانة العامة للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، سيكون رجما للغيب، ما يعني كسب شهور أخرى.
كسب الوقت لن ينقذ نظام الأسد، ولن ينقذ روسيا من الهزيمة المحتومة، فتمديد وقت الحرب في غير مصلحتهما، على الرغم من عدم اليقين إن كان هذا الوقت نفسه في مصلحة الفصائل المعارضة، والهيئة العليا للمفاوضات، والائتلاف السوري المعارض، فقد يخسر الطرفان.
الرهان على الهزيمة الروسية في سوريا يستند إلى تاريخها الاستعماري المتواضع، حيـث لم تحقـق سان بطـرسبورغ، أو موسكو، نصرا صريحا إلا في المحيـط الحيوي لروسيا القيصرية، أو الاتحاد السوفييتي.
تحتل روسيا الاتحادية الآن، المرتبة الأولى عالميا من حيث المساحة (17.075 مليون كيلومتر مربع)، مع عدد سكان تناقص بشكل حاد منذ انفراط عقد الاتحاد السوفييتي من 155 مليون نسمة إلى ما لا يتجاوز 143 مليون نسمة حاليا.
روسيا (الاتحاد السوفييتي) لم تنتصر في كوبا أو في أفغانستـان، بالقدر نفسه الذي لم ينتصـر عليها نابليون، ثم هتلر، لأنها تستطيع الـدفاع عـن نفسهـا في محيطها الحيوي القريب، أما أن تغزو وتستعمر وتستقر، فهذا ما لم يحدث حتى بدخولها على خط الحرب الأميركية في فيتنام، التي انتهت بهزيمة أميركا وروسيا معا.
عموما، لم تحقق حتى الدول المستعمرة الكبيرة استقرارا مديدا، بالرغم من خبرتها ومن امتلاكها كل الأسباب البعيدة للعب دور الدولة المستعمرة. فبريطانيا لم تستطع الاحتفاظ بدرة تاجها في الهند، كما أن فرنسا لم تستطع ضم الجزائر من تحت المتوسط حتى بعد 132 من استعمارها.
روسيا بوتين تحاول أن تتسلل من بين ثقوب الهشاشة الأوروبية، بعد أفول “مجد” الاستعمار المباشر ابتداء من منتصف القرن العشرين. وتتنمر، الآن، مستغلة فوبيا أميركا أوباما من الحرب، بعد تجنبه الشراسة التي أبداها أسلافه، من ريغان إلى “البُوشيْن”، الأب والابن.
لن تستغرق روسيا ثماني سنوات حتى تفوز بهزيمة جديدة، كما حصل في أفغانستان، لكـن سنة من تدخلها في سوريا لا تؤشر على بداية النهاية. مع ذلك يشير الجدل السياسي في مجلس الأمن، بين الولايات المتحدة وروسيا، بمساندة فرنسية، ودعم ألماني من بعيد، إلى شيء ما يعد للتفاوض أو التصعيد، خاصة أن شرق البحر المتوسط أصبح غابة من حاملات الطائرات، والمدمرات، والبارجات، والغواصات: روسية وأميركية وبريطانية وفرنسية.
هنالك اليوم ست سفن حربية روسية في المياه الدولية، والإقليمية، غرب سوريا، وجنوب تركيا، تساندها أربع سفن إمداد. يقابلها العدد نفسه أميركيا، في عرض البحر، “تساندها” مدمرة فرنسية، وغواصتان أميركيتان، وغواصة بريطانية، بينما تتجه حاملة طائرات وست سفن حربية أميركية إلى البحر الأحمر.
وشهد سبتمبر الماضي حركة عبور غير عادية لسفن روسية حربية عبر مضيق البوسفور الإجباري، احتلت فيه شرق المتوسط، ومنها حاملة الطائرات “أميرال كوزينتسوف”، بينما تكررت أخبار عن تحليق طائرات أميركية قرب قاعدة حميميم الروسية في سوريا، وأخبار تحرش طائرات روسية بسفن أميركية في المتوسط منذ أواسط يونيو الماضي.
بالطبع، تواجد الأساطيل الأميركية في المتوسط شيء عادي، وحركتها عبر المضائق المشرفة على البحر المتوسط والبحر الأحمر ومضيق هرمز، تتكرر أحياناً بشكل اعتيادي، لغرض التدريب، أو المناورات، أو الاستطلاع، لكن حركتها اليوم مرتبطة بالتحرك الروسي المستفز لدول أعضاء في حلف الناتو على خلفية التورط الروسي المتصاعد في الحرب على سوريا.
الجديد هو عبورها عبر مضيق البوسفور، الذي يشطر إسطنبول بين آسيوية وأوروبية. فإسطنبول شبه عاصمة لتركيا، وتركيا عضو في حلف الناتو.
بعد العرض الهزلي في مجلس الأمن، مساء السبت، فإن زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتركيا يـوم 10 أكتوبر الجاري ستكون حلقة جديدة في زيادة الغموض عن العلاقة الأطلسية الأميركية – الروسية. فتركيا التي تعلن لسانيا دعمها للثورة السورية فضلت في عهد رئيس الوزراء بن علي يلدريم مصالحها الحيوية عبر الممر الروسي، بعد أن يئست من خذلان أميركا لها منذ 2011، بعدم دعم المقترح التركي بإنشاء منطقة حظر جوي شمال سوريا تخفف عنها عبء اللاجئين السوريين الذين يزيد عدد من استقر منهم في تـركيا على 2.7 مليون سوري.
وبينما لا توجد مؤشرات على ميل المعركة البرية في حلب إلى الحسم، وبعد فشل فرنسا وأسبانيا وحلفائهما في تمرير قرار بحظر الطيران فوق حلب، ستروج شائعات عن سلاح وصل، أو سيصل، إلى الجيش السوري الحر.
هذا منطقي، فاللهجة الحادة التي قابل بها مندوب بريطانيا استخدام روسيا للفيتو ضد مشروع القرار الفرنسي لن تكون بلا تبعات. ويأس أميركا وحلفائها من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن من جدوى العمل السياسي مع روسيا سيدفع هؤلاء إلى إجبار روسيا على التراجع بوسيلة ما، دون التورط معها في معركة عسكرية مباشرة.
روسيا تدرك ذلك، ولذلك استبقت جلسة مجلس الأمن بتهديد مزدوج يحذر من استهدافها، أو استهداف مواقع قوات النظام السوري.
المؤشرات ترجح استمرار حرب أميركا وأوروبا ضد روسيا في سوريا بالوكالة، فأي حرب مباشرة بين الطرفين تعني حربا نووية، فروسيا قطعت نصف الطريق في ورطتها، وما دامت روسيا تعطي الأمان لإسرائيل لا يوجد سبب كي تتورط أميركا وحلفاؤها في مواجهة صريحة مع روسيا، حتى لو قُتل خمسة ملايين سوري آخر.
كاتب وصحافي سوري
علي العائد
العرب القطرية