منذ مطلع مارس/ آذار الماضي، تشهد مناطق إدلب شمال غربي سوريا تصعيدا غير مسبوق.
وتشن طائرات حربية روسية غارات على الجبال والأحراش المحيطة ببلدتي حربنوش والشيخ بحر في ريف إدلب الغربي، بحسب مصادر محلية.
كما أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان مؤخرا بأن الطيران الروسي شنّ 17 غارة، خلال ساعة واحدة، على أماكن في أطراف بلدة معرة مصرين وقرية الشيخ بحر. وسبق ذلك غارة على بلدة بنش أدت إلى مقتل وإصابة مدنيين.
كما تجدد قصف صاروخي مكثف من قوات نظام بشار الأسد على ريف إدلب الجنوبي، حيث استهدف مناطق في البارة ودير سنبل وبينين وحرشها وكنصفرة وسفوهن والفطيرة والحلوبة وفليفل، مع تحليق طائرات استطلاع في الأجواء.
وتشير معطيات ميدانية في إدلب إلى أن اتفاق موسكو، المبرم بين الروس والأتراك في مارس/ آذار الماضي، ومن قبله تفاهمات آستانة، باتت على المحك وأمام امتحان عسير، حيث لا يكاد يمر يوم من دون خرقه من طرف قوات النظام.
** نقاط المراقبة التركية
نص اتفاق خفض التصعيد، الذي توصلت إليه تركيا مع روسيا وإيران خلال مباحثات آستانة في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، على إنشاء منطقة عازلة منزوعة السلاح، ومحاربة الإرهاب، إضافة إلى فتح الطرق الدولية.
بناء على هذا الاتفاق أنشأت تركيا 68 نقطة مراقبة عسكرية في منطقة خفض التصعيد بشمال غربي سوريا، وتوسعت في نشر نقاط المراقبة في إدلب بعد هجوم للنظام على نقاط مراقبة تركية، أسفر عن مقتل 33 جنديا تركيا.
وتعمل أنقرة على تثبيت الوضع الحالي في إدلب، حيث نشرت نقاط مراقبتها العسكرية في جميع محاور المدينة وريفها، ونقلت إليها أكثر من 13 ألف جندي، مزودين بأسلحة ثقيلة ومعدات.
** اعتداء من قوات النظام
أعلنت وزارة الدفاع التركية، عبر بيان في 16 سبتمبر/ أيلول الجاري، أن عناصر من النظام السوري يرتدون ملابس مدنية اقتربوا من نقاط عسكرية تابعة للجيش التركي في إدلب، وهي النقاط من الثالثة إلى التاسعة، واعتدوا على النقطة السابعة في مدينة مورك بريف حماة الشمالي، قبل أن يتم تفريقهم باتخاذ التدابير اللازمة.
وبدعم روسي وإيراني، سيطرت قوات النظام، في أغسطس/ آب الماضي، على قرى وبلدات ريف حماة الشمالي، بعد معارك شرسة استمرت لمدة أسابيع.
** أبرز نقاط الخلاف
تتمحور نقطة الخلاف الأساسية بين تركيا وروسيا، حول الطريق الدولي m4، الذي تريد موسكو تعجيل فتحه لبدء عملية تبادل تجاري، بالإضافة إلى سحب القوات التركية من جنوبه، وحصرها بحزام عمقه 35 كم.
بينما تريد تركيا حسم مصير المناطق الداخلة ضمن تفاهم “سوتشي”، والتي توغل فيها النظام السوري آواخر 2019 ومطلع 2020، بوضعها تحت حماية قوى أمنية تشرف أنقرة وموسكو على إعدادها، في حين تصر روسيا على تثبيت الوضع الراهن واستمرار سيطرة قوات النظام على تلك المناطق.
تبدو روسيا مستاءة بشكل كبير جدا من تداعيات قانون قيصر (الأمريكي الخاص بفرض عقويات على النظام ومعاونيه)، لذلك هي بحاجة ماسة إلى فتح الطرق الرئيسية التي تشكل شرايين الحياة لمختلف المناطق، لتخفيف تأثيرات القانون على الحركة التجارية، خصوصا وأن اقتصاد نظام الأسد يتهاوى، تحت تأثير العقوبات الدولية.
وتسعى روسيا إلى توسيع دورها في محافظة إدلب، خاصة في المناطق المحاذية للطريق m4، متذرعة بتهديدات أمنية تتعرض لها الدوريات المشتركة.
كما تشكل منطقة شرق الفرات أحد أهم الملفات المعقدة بين الطرفين، فبينما تنتظر أنقرة تنفيذ ما نصت عليه مذكرة “سوتشي”، التي تضمّنت إبعاد التنظيمات الإرهابية عن المناطق الحدودية، تماطل موسكو كالعادة ولا تفي بوعودها.
بل وتذهب موسكو إلى توافقات مع الولايات المتحدة من جهة، والمنظمات الانفصالية الإرهابية من جهة أخرى، من دون أن تأخذ بعين الاعتبار المخاوف الأمنية التركية في شمال شرقي سوريا.
كما أن مصير منطقتي تل رفعت ومنبج في ريف حلب لا يزال عالقا على طاولات المباحثات، حيث تطالب تركيا بأن تنفذ روسيا التزاماتها في اتفاقات سابقة تقضي بتسليم المنطقتين لفصائل المعارضة السورية.
** مباحثات أنقرة
في 15 و16 سبتمبر/ أيلول الجاري، شهدت العاصمة التركية أنقرة اجتماعات بين الجانبين التركي والروسي، على مستوى الوفود التقنية العسكرية والسياسية والأمنية، حول آليات ضبط الأوضاع الميدانية في إدلب، إضافة إلى الملف الليبي.
بالتوازي مع تلك المباحثات، عُقد اجتماع في وزارة الخارجية التركية للتشاور بين الجانبين بشأن سوريا وليبيا، وضمّ مسؤولين من وزارات الدفاع والخارجية وجهازي المخابرات في البلدين. وسبق وأن عقد جولته الأولى في موسكو، قبل أسبوعين.
مصادر روسية ذكرت أن موسكو عملت على إقناع أنقرة بتقليص الوجود العسكري التركي في إدلب، وسحب الأسلحة الثقيلة من المنطقة، وإعادة ترتيب الوضع المتعلق بنشاط نقاط المراقبة التركية.
وذكرت وسائل إعلام روسية أن الجانب التركي رفض طلب روسيا تقليص عدد نقاط المراقبة، لكنه أبدى استعدادا لمناقشة آليات لسحب جزء من الأسلحة الثقيلة من إدلب ومحيطها.
وتزامنت هذه الاجتماعات مع تصعيد روسي ميداني في محافظة إدلب، تمثل في عودة الغارات الجوية على منطقة خفض التصعيد، مع قيام النظام السوري بالحشد لتظاهرات ضد النقاط العسكرية التركية، التي باتت تقع ضمن مساحة جغرافية تسيطر عليها قوات النظام وأخرى مدعومة روسيًا.
واللافت أن الحديث عن تقليص الوجود التركي جاء بعد وقت قصير من قيام موسكو وأنقرة بتدريبات عسكرية مشتركة في إدلب.
وقال يفغيني بولياكوف، نائب رئيس مركز التنسيق في منطقة خفض التصعيد بإدلب، إن العسكريين الروس والأتراك أجروا تدريبا مشتركا لمحاربة الإرهاب، وتم التدرب على صد هجمات لجماعات مسلحة على قوافل عسكرية.
وشملت التدريبات وسائلا لتعزيز التعاون والتنسيق أثناء تسيير الدوريات، واستدعاء الإسناد في حال تعرُّض دورية لهجوم، بما في ذلك التصرفات خلال القصف وإجلاء الأفراد والمعدات.
** إدلب على صفيح ساخن
توقع “معهد دراسات الحرب” الأمريكي “ISW” أن تشن روسيا وحلفاؤها هجوما جديدا على مناطق في جنوب إدلب.
وقال المعهد، في تقرير له، إن موسكو وأنقرة تفاوضتا على اتفاق ينص على انسحاب تركي جزئي من إدلب، وأدى إلى سحب تركيا المئات من قواتها من بلدات جنوب إدلب في منطقة جبل الزاوية، مطلع الشهر الجاري.
وأضاف أن الانسحاب كان بحجة إعادة انتشار تتعلق بالنزاعات بين تركيا واليونان في البحر الأبيض المتوسط، معتبرا أن هذا الانسحاب “منعطف مهم” ومؤشر على بدء هجوم وشيك لقوات الأسد على المنطقة.
وتابع المعهد أن تركيا خفضت وتيرة قوافلها اللوجستية العسكرية، وقلصتها إلى ثلاث قوافل فقط خلال 13 يوما، بينما كانت ترسل إمدادات عسكرية كل يومين، وهذا مؤشر آخر على ماسبق.، بحسب المعهد.
على عكس ما ورد في التقرير، واصل الجيش التركي إرسال تعزيزاته العسكرية، حيث دخل رتلان عسكريان فجر السبت، من معبر كفرلوسين العسكري، يحتويان على عدد كبير من الدبابات والآليات العسكرية، وشاحنات محملة بكتل إسمنتية، ومعدات لوجستية، إلى منطقة خفض التصعيد الرابعة شمال غربي سوريا، ضمن التعزيزات التي ترسلها تركيا بشكل مستمر لدعم نقاطها وقواعدها العسكرية هناك.
وأنشأ الجيش التركي عدة نقاط عسكرية جديدة في المنطقة، أحدثها القاعدة العسكرية على تل الراقم بريف اللاذقية الشمالي، في 9 أغسطس/ آب الماضي، ليصل عدد النقاط والقواعد العسكرية التركية في إدلب إلى 68 نقطة.
ودفعت تركيا، مؤخرا، بتعزيزات عسكرية نوعية وضخمة إلى نقاطها العسكرية في إدلب، بإدخال 112 رتلا عسكريا في الشهور الخمسة الماضية.
وشملت هذه التعزيزات دبابات وعربات مدرعة ومدافع ميدانية ثقيلة ومنظومات مضادة للطائرات من طراز “ATILGAN”، ومنظومات مضادة للطائرات متوسطة المدى من طراز MIM23-HAWK ، في معسكر المسطومة ومطار تفتناز وتل النبي أيوب.
وبات الوجود العسكري التركي بشمال غربي سوريا يشكل مصدر قلقل للروس، الذين يطمحون للاستفراد بالورقة السورية خالصة لهم.
وواضح أيضا أن موسكو تريد استغلال حالة التوتر القصوى في منطقة شرقي البحر المتوسط، للضغط على تركيا، لخفض وجودها العسكري في سوريا.
تريد موسكو تهيئة الأجواء لانتخابات يستميت نظام الأسد لإجرائها، منتصف 2021، عبر فرض شروط جديدة على تركيا.
لا مانع لدى الروس بأن تتحول سوريا إلى دولة مارقة خارجة عن القانون معزولة دوليا، على غرار إيران وكوريا الشمالية. إذ سيضطر المجتمع الدولي، مع مرور الزمن، إلى التعامل معها إن عاجلا أم آجلا!
مقابل حسابات الروس المصلحية الإمبريالية التوسعية، يشكل الوضع في سوريا مسألة أمن استراتيجي يمس استقرار تركيا وأمن مواطنيها. ولا يُعقل والوضع هكذا أن ترضخ تركيا لحسابات الربح والخسارة، خصوصا وأن أذرع الإرهاب تحيط بها من كل جانب، فالمسألة بالنسبة لتركيا مسألة وجود وبقاء.
إذا كانت موسكو معنية بشراكة استراتيجية مفيدة طويلة الأمد مع أنقرة، وهي بحاجة ماسة لذلك، فيجب عليها العدول عن استغلال الظروف الاستثنائية الحالية في شرقي المتوسط، وعدم تكرار لعب سياسة حافة الهاوية مع شركائها.
نقلا عن القدس العربي