واشنطن: يعتبر رفع واشنطن حظر الأسلحة عن إدارة جنوب قبرص (الرومية) في ظل تصاعد التوتر شرق المتوسط، بمثابة “عمى استراتيجي خطير” يقوض الأمن الإقليمي، و”خطأ تاريخيا كبيرا” يضعف دور الوسيط المحتمل بين تركيا واليونان.
وكشف قرار وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، في يوليو الماضي “رفع حظر الأسلحة عن إدارة جنوب قبرص الرومية” عن عدم وجود منظور استراتيجي لإدارة ترامب، التي تعرضت لانتقادات شديدة لعدم اتخاذ مبادرات كافية بشأن قضية شرق البحر المتوسط“.
ولا تشفع جهود الإدارة الأمريكية طويلة المدى في هذا الشأن، ورغبتها في تقليص نفوذ روسيا على إدارة جنوب قبرص، وتأثير اللوبي الرومي/ اليوناني في الكونغرس الأمريكي، وما شابه ذلك عن الخطأ الاستراتيجي للقرار الذي اتخذته واشنطن.
وبصرف النظر عن أن القرار في حد ذاته يعدُ قراراً خاطئاً، فمن الواضح أن توقيته مقلق مثل محتواه، وإذا ما كانت الإدارة الأمريكية تزعم “أنها تخطط منذ عام لذلك وأن الأولوية بالنسبة لها هي تقليل النفوذ الروسي هناك وأن هذا القرار لا علاقة له بالوضع الحالي في شرق البحر المتوسط” فإن ذلك يعني أنها تغالط نفسها بشكل كبير.
ومن الزاوية الأخرى فإن الولايات المتحدة الأمريكية تعرف تركيا عن قرب، وتعلم أنه لن يتم قراءة هذا القرار في أنقرة بشكل يختلف عن كونه رسالة تقول فيها واشنطن لإدارة جنوب قبرص الرومية: “إنني أقف بجانبك في مسألة شرق المتوسط”.
لذلك، ليس هناك إيضاح مقنع لبلد يؤجج النيران في حين أنه من المفترض أن يقوم بدور رجل الإطفاء لإخماد هذا الحريق.
خلفية القرار
إدارة ترامب تسعى إلى تحقيق هدف “الحد من نفوذ روسيا على الإدارة القبرصية اليونانية” وأن خطواتها في هذا الصدد تمتد للعام الماضي.
وتم اتخاذ الخطوة الملموسة الأولى في هذا الصدد باعتماد مشروع القرار المعروف باسم “قانون التعاون الأمني والطاقة لشرق المتوسط” في الكونغرس في ديسمبر/ كانون الأول 2019.
وفي هذا القانون، تمت الإشارة إلى أهمية التعاون بين كلٍ من إدارة جنوب قبرص الرومية وإسرائيل واليونان في المنطقة، وتم التأكيد بعد ذلك على ضرورة رفع الحظر الذي تفرضه الولايات المتحدة على إدارة جنوب قبرص.
وورد في القانون ذاته مواد من قبيل وجود 40 ألف جندي لتركيا في الجزيرة، وأن إدارة جنوب قبرص الرومية تقوم بشراء الأسلحة من روسيا والدول الأخرى بسبب حظر الأسلحة التي تفرضه عليها واشنطن، وأن هذا لا يتوافق مع المصالح الأمريكية في المنطقة.
من ناحية أخرى، نص “قانون تفويض الدفاع القومي 2020” (NDAA)، الذي وقعه الرئيس دونالد ترامب في 20 ديسمبر/ كانون أول 2019، على رفع “مشروط” لحظر الأسلحة الذي تفرضه الولايات المتحدة الأمريكية على إدارة جنوب قبرص منذ عام 1987.
وعليه، فلن يتم رفع الحظر إلا إذا أكد رئيس الولايات المتحدة للجان المختصة في الكونغرس أن إدارة جنوب قبرص “تعمل مع الولايات المتحدة على مكافحة غسيل الأموال” وأنها “اتخذت الخطوات اللازمة لعدم رسو السفن العسكرية الروسية بالجزيرة من أجل الصيانة والتزود بالوقود”.
والشاهد أن الولايات المتحدة رفعت العقوبات، لكن لا أحد في واشنطن يمكنه القول إن إدارة جنوب قبرص الرومية استوفت الشرطين المذكورين أعلاه وأن إدارة ترامب أبلغت الكونغرس بهذا.
ونقل ترامب بمرسوم رئاسي نُشر في 14 أبريل/نيسان 2020 الماضي، سلطة تنفيذ إدارة جنوب قبرصية الرومانية للبنود الخاصة بالقوانين المذكورة إلى وزير الخارجية الأمريكي.
وصرح بومبيو، متحدثاً أمام الكاميرات في يوليو/ تموز الماضي، أن “وزارة الخارجية الأمريكية تخطط لتوفير تدريب عسكري دولي وتمويل تعليمي (لإدارة جنوب قبرص الرومية) في نطاق العلاقات الأمنية الثنائية المتزايدة اعتماداً على أموال وإخطارات الكونغرس”.
وتحدث بومبيو عن أن “هذه الخطوة تعدُ جزءاً من جهود الولايات المتحدة الأمريكية لتحسين العلاقات مع الشركاء الإقليميين المحوريين بهدف توفير الاستقرار في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط”.
محتوى القرار
بدايةً إذا ما نظرنا عن كثب إلى قرار رفع حظر الأسلحة الذي أعلنه بومبيو، فإن عبارة “غير قاتلة” الواردة في البيان، والتي تعني “سلاح غير فتاك”، تلفت الانتباه إليها بشدة.
وتعني عبارة “سلاح غير الفتاك” أنه لا يمكن لإدارة جنوب قبرص الرومية أن تشتري من الولايات المتحدة الأمريكية دبابات أو مدافع أو بنادق أو طائرات أو أي سلاح آخر له خصائص مميتة مثل هذه الأسلحة، ولكن يمكنها شراء مسدسات الصعق الكهربائي والسترات الواقية والمعدات العسكرية والخدمات العسكرية الأخرى.
وعلاوة على ذلك، لم يتضح بعد ما إذا كانت إدارة جنوب قبرص، التي تمر بوضع اقتصادي صعب، بإمكانها شراء أي عنصر دفاعي من الولايات المتحدة الأمريكية أم لا.
ومن ثم، فلن يكون من الصحيح القول بأن القرار المعني يمكن أن يغير المعادلة العسكرية القائمة في المنطقة بأي شكل من الأشكال على المدى القصير.
وهناك مسألة أخرى وهي أن القرار صالح للسنة المالية 2021 في الولايات المتحدة الأمريكية (1 أكتوبر/ تشرين الأول 2020 – 30 سبتمبر/ أيلول 2021). إلا أنه يمكن للأطراف المعنية التفاوض من جديد للسنة المالية القادمة والاتفاق على استمرار هذا القرار.
ولهذا فإن استمرار قرار “تعليق الحظر على الأسلحة” من عدمه واشتماله على الأسلحة الفتاكة من عدمه في حالة استمراره؛ سيكون من ضمن أهم الموضوعات المؤثرة على المستقبل القريب للعلاقات التركية الأمريكية.
التوقيت
ومن الواضح أن محاولة الجانب الأمريكي تفسير المسألة على شاكلة “نحن على دراية بالتوتر الحالي في شرق البحر المتوسط، لكن هذا القرار لا علاقة له بالوضع الحالي” تعدُ عديمة الجدوى بالنسبة لأنقرة.
حتى أن قول بومبيو: “نحن على علم بالتوتر الموجود في شرق المتوسط، لكن هذا القرار الذي اتخذناه هو قرار صحيح” أثار المزيد من ردود الفعل.
ومن الممكن تفهم “التخبط” الموجود في السياسة الخارجية للولايات المتحدة المنشغلة بمسألة الانتخابات الرئاسية التي ستجري في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني القادم. إلا أن القرار الخاص بإدارة جنوب قبرص يكشف عن وجود “عمى استراتيجي” في هذه السياسة.
وكان على واشنطن المعروفة بأنها “أهم حليف لتركيا في حلف الناتو”، ضبط إطار المعادلة الصعبة التي جعلت كلا من تركيا واليونان وفرنسا وجهاً لوجه في شرق المتوسط، عبر القيام بدور الوسيط، دون اتخاذ خطوة من شأنها تقوية شوكة إدارة جنوب قبرص الرومية وزيادة التوتر الموجود بين الأطراف.
وقد لا يكون من الممكن قراءة ما يدور في ذهن الإدارة الأمريكية، إلا أن قيامها برفع حظر الأسلحة الذي فرضته على إدارة جنوب قبرص قرابة 33 عاما يمكن أن يعبر عنه بـ”العمى الاستراتيجي” أو “إظهار العين الحمراء لتركيا” وذلك بشكل أدق.
ومن ثم فإن سريان هذا القرار لمدة عام واحد واشتماله على الأسلحة غير الفتاكة هي عناصر من الدرجة الثانية لا يمكنها أن تخفف من الوطأة الوخيمة لتوقيت الحدث.
تأثير اللوبي الرومي- اليوناني
ومهما حاولت إدارة ترامب التأكيد على أن هدفها هو “تقليص التأثير الروسي” فإنه من المعروف أن هناك أسماء قامت بعمل لوبي داخل الكونغرس منذ فترة طويلة لرفع حظر الأسلحة المفروض على إدارة جنوب قبرص الرومية كخطوة مناهضة لتركيا.
ويأتي في مقدمة هذه الأسماء بوب مينديز الديمقراطي والعضو البارز في لجنة العلاقات الخارجية، وأيضاً ماركو روبيو الجمهوري والعضو بنفس اللجنة، واللذان بذلا جهوداً مضنية لرفع حظر الأسلحة عن إدارة جنوب قبرص وتقويض النفوذ التركي المتزايد في شرق الأبيض المتوسط.
واستغل هذان الاسمان، وهما مهندسا “قانون التعاون الأمني والطاقة لشرق المتوسط” ، كل الفرص التي أتيحت لهما لخلق قناعة مشتركة بخصوص هذه المسألة في مجلس الشيوخ الأمريكي.
وعلى هذا فمن الممكن قراءة هذا القرار على أنه ثمرة للموجة المتصاعدة ضد تركيا في الكونغرس في الآونة الأخيرة.
وعلى ما تقدم، فإن الإدارة الأمريكية بعثت برسالة خاطئة إلى أنقرة بهذه الخطوة التي قامت بها في توقيت حرج للغاية؛ وأضعفت بذلك من موقعها الاستراتيجي في قضية شرق البحر المتوسط، وأضافت عقبة أخرى، كانت في غنى عنها، إلى المشاكل القائمة في العلاقات الثنائية بينها وبين تركيا.
نقلا عن القدس العربي