خرجت السياسة الأميركية من الحرب الباردة مزهوّة بفائض القوة، هذا المتشكل من حيوية الفكرة ومتانة الاقتصاد وسطوة الآلة العسكرية، والمسلّح «برؤيا» ديموقراطية تبشيرية كادت تصير ديناً مع جورج بوش الابن، بعد أن نطق هذا الأخير بما يشبه «الوحي» الذي كان يتلقاه أثناء نومه، أو في أحلام يقظته.
حصدت الولايات المتحدة الأميركية الفشل إثر الآخر، في ميدان قيادتها العالمية، ولم تستطع، بعد الحرب الباردة، أن تكون قطباً جاذباً كما كان عليه موقعها قبل هذه الحرب، وعلى العكس من آليات الجمع والتجميع التي اعتمدتها السياسة الأميركية، اعتمدت هذه السياسة وما زالت، آليات الفرز والتصنيف والاستبعاد، مثلما مارست أساليب الابتزاز والتهويل والتهديد، وتخلت في مناسبات كثيرة عن معادلة العصا والجزرة، فلوحت بالعقاب غالباً، وحجبت الثواب إلا عن أولئك الذين يقولون قولها الحرفي، ويرون رؤيتها المحلية أو التكتيكية أو الاستراتيجية، ومن منظارها هي فقط.
دخلت السياسة الأميركية إلى العالم المتبدل على قاعدة التجريب والتعلم من الخطأ، أي من دون رؤية شاملة متوازنة تحافظ على عدم الاختلال الإجمالي بين ما تراه مصلحة خاصة أميركية، وبين ما هو مصالح دول أخرى لا تستطيع النزول على حكم «الطبيب» الأميركي، ولا تثق بما يقترحه من معالجات غريبة عن الجسد المريض بالسياسة والاقتصاد، وذلك لسبب بديهي، هو أن الوصفة خيالية، ولا صلة لها «بالمعاينة السريرية» للجسد المراد علاجه.
ميدان التجريب الأساسي للسياسة الأميركية كان في الشرق الأوسط، وفي الديار العربية، فبعد أفغانستان التي ما زالت مدمرة، جاء دور العراق، ومن بعدهما كرَّت سبحة التدخلات غير المجدية حيناً، وسبحة الانسحاب والتخلي، عن ميدان المسؤولية أحياناً كثيرة.
أخطأت السياسة الأميركية، وما زالت ممعنة في إدارة أخطائها، بل هي تضيف إليها عوامل احتقان سياسية لها انعكاساتها على الميادين التجريبية التي اختارتها الإدارة المسؤولة عن تلك السياسة، فباتت، بفضل عدم التعلم من الخطأ، ساحات تخريب للعمران والاجتماع، ولأن الكلفة يتحملها أولئك المستهدفون بالتخريب، فإن الهدوء الأميركي حيال الآثار الجانبية لتجاربهم، ما زال سيد الموقف، أي سيد الموقف الموضوعي العام، الناجم عن التطورات، وليس سيد الموقف السياسي الأميركي، الذي يبدو للكثيرين أنه سياسة اللاموقف.
ولأن الولايات المتحدة الأميركية معتصمة خلف بحار عزلتها حين تشاء، ومتدخلة بسطوة قوتها العابرة للقارات حين تريد، ومتصلة ومنفصلة عن الأمكنة التي تختارها مناطق حارة وباردة، لأساليبها المتبدلة والمتداخلة، لكل ذلك، تصير مادة الشعوب المقهورة بأنظمتها الداخلية، وبسياسات المراكز الدولية، موضوعاً للمزايدة السياسية الداخلية، في الداخل الأميركي ذاته، مثلما تصير موضوع دعاية وكسب رخيصين للحزب الجمهوري من جهة، والحزب الديموقراطي من جهةٍ أخرى، بخاصة في مواسم الانتخابات الرئاسية.
على سبيل التعداد، كانت الحملة ضد أفغانستان موضوع حشد وتعبئة واستنفار غرائز، بعد الهجوم على نيويورك، وتم اختراع الأدلة الكاذبة كتمهيد لاجتياح العراق، وما زالت سورية تترنح بفعل الضربات الخارجية، وعلى مسمع ومرأى من «قيادة أميركا العالمية».
لم تغب أحداث الساحات هذه عن نظر المخطط السياسي الأميركي عندما ناقش اقتصاداً أو سياسة، أو عندما ناقش رئاسيات وعلاقات وتوازنات، بين الدول العربية وبين جيرانها. في عدم الغياب هذا، كان الحاضر الدائم التلاعب بالمصالح العربية، والسماح للقوى الإقليمية بالنيل منها، وباختراع أعداء داخليين للعرب تجدر محاربتهم، لكي ينالوا بطاقة الدخول إلى نادي الرضا الأميركي، بغض النظر عن كلفة الدخول والرضا.
أحدث عناقيد هذه السياسة، قانون «جاستا» الذي أقره الكونغرس الأميركي. فحوى هذا القانون التهديد، وهدفه استكمال سرقة ونهب الثروات العربية، ومنطقه الغطرسة التي تتيح للناهب والقاتل الخارجي، أن يحاسب سواه، وأن يظل في منأى عن كل محاسبة. ببساطة، بل بصفاقة سياسية وأخلاقية، يريد الطرف الأميركي أن يحاسب على النتائج، وكأن لا علاقة له بالأسباب، وببساطة، بل وبأسلوب احتقار للذاكرة العالمية، يريد «المشرِّع» الأميركي، أن تنسى الشعوب التي استهدفت بعشرات الحملات العسكرية الأميركية، ما سببته تلك الحملات من ويلات ودمار، وهو يريد، أي المشرِّع، أن يغمض المقتول عينيه عن يوميات القتل التي ما زالت تستهدفه في الأيام الراهنة.
لقد ازداد الضعف العربي في زمن اختلال التوازن العالمي، وتبدو مسيرة الضعف والاستضعاف مفتوحة، مما يغري الآخر الخارجي بسهولة النيل من كل الوضعية العربية. لم يعد خارج الموضوع القول، إن البلاد العربية المستهدفة، أو ما تبقى منها، مضطرة لصياغة ردود جمعية، مع من يمكن جمعه، ولعل اليوم مناسب للقول أيضاً إن الفكرة العربية ما زالت راهنة، والبلاد التي تتعرض للنهب وللعدوان وللتهديد… بلاد عربية. بلاد لها ما لها وعليها ما عليها، لكن لا بديل عن الردّ المجدي في لحظة مثل هذه اللحظة السياسية المصيرية.
أحمد جابر_الحياة