يعدّ الرّثاء من أهمّ الأغراض الشعرية التي عالجها الشعراء قديما وحديثا، وهو نزعة إنسانية صادقة، تترافق مع مشاعر الحزن على المرثي، والفقد الذي يقطّع نياط القلب، فتتأجج المشاعر، وتجود القريحة بالمراثي.
هل تستطيع الفروع الأمنية الحجز على #عقارات_المطلوبين؟؟
درج الشعراء على رثاء عزيز أو قريب أو ملك أو قائد أو ما شابه، بيد أنّ بعض الشعراء على قلّتهم طَرَقَ نوعا آخر من الرّثاء، وهو رثاء أنفسهم وهم أحياء، ونذكر على رأسهم مالك بن الريب الذي سيكون عليه مدار البحث، والشاعر العباسي تميم بن جميل الذي تمرّد على الخليفة المعتصم، فعفا عنه بعد قصيدته في رثاء نفسه، ومنهم أيضا الشاعر أبو فراس الحمداني الذي توجه إلى ابنته برثاء نفسه بعد أن أثخنته الجراح.
فمن هو مالك بن الرّيب؟ وما القصيدة التي رثى بها نفسه.
مالك بن الرّيب التّميمي شاعرٌ من بني مازن بن عمرو بن تميم، كنيته أبو عقبة، نشأ في نجد، وتوفي في خراسان (680هـ).
هو أحد فرسان بني مازن، عُرفَ بشجاعته، وفتكه، لا ينام إلا متقلّدا سيفه، شاعر من الظرفاء الأدباء، اشتُهِرَ في أوائل العصر الأموي.
تذكر المصادر أنّه استغلَّ شجاعته في اللصوصيّة وقطع الطريق مع ثلاثةٍ من أصدقائه؛ من بينهم شظاظ الضّبي الذي يضرب به المثل في السرقة فيقال: “ألصُّ من شظّاظ”.
يكشف شعره عن نفس قويّة معتدّة بذاتها، عاش صاحبها حياة فتك وسلب ونهب وتشرّد إلى أنْ مرّ عليه في يومٍ من الأيام “سعيد” ابن الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو في طريقه إلى خراسان، فأغراه بالجهاد بدلا من قطع الطريق، فاستجاب له، وذهب معه، وأبلى بلاءً حسناً، وحسُنَتْ سيرتُه، وهو في طريق عودته أحسّ بدنو أجله بسبب مرضٍ شديد أصابه، وقيل بسبب أفعى لسعته فسرى السّمّ في عروقه، فقال قصيدته المشهورة التي يرثى فيها نفسه ويصف قبره، وتعدُّ من أجود وأجمل المراثي التي قالتها العرب، ومطلعها:
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةًمالك بن الرّيب
بجنبِ الغضا أُزجي القلاص النّواجيا
بدأ الشاعر مرثيّته بتركيبٍ التمنّي “ألا ليت شعري” كعادة الكثير من الشعراء الذين سبقوه، وتبعه بالاستفهام (هل أبيتنّ ليلة)، فهو يتمنى لو أنّه يستطيع أن يبيت ولو ليلة واحدة بقرب أشجار الغضا مع أحبّته يسوق فيها النّوق السّريعة. ولكن هيهات هيهات، فما ذهب لا يعود.
ويتابع فيقول:
فليت الغَضا لمْ يَقْطَعِ الرّكْب عَرْضه
وليت الغضا ماشي الرّكابَ لياليا
لقد كانَ في أهلَ الغَضا لو دّنا الغضا
مزارٌ ولكنَّ الغَضا ليس دانيا
يعود الشاعر هنا إلى أسلوب التمني ب(ليت) وهو طلب شيء مستحيل الحدوث، فرغبته بأن يعود إلى ديار أهله وأحبته، وأن يرافقه الغضا طول رجلته لن يتحقق، مهما تمنى.
والملاحظ هنا إكثار مالك بن الريب من تكرار كلمة (الغضا) للتأكيد على حبّه لأهله وعلى قوة الارتباط به لأنّه يذكّره بهم وبأيامه معهم لشدّة ما يلاقي من إحساس بالحنين والغربة والتوجّع، وقد بنى القصيدة على روي (يا) لما في الألف الممدودة بعد الياء من دلالة على الحزن والأسى والتوجّع.
وقد درج الشعراء على تكرار لفظ لدلالة على أهميته عندهم كأنْ يكررون لفظة المحبوبة لكثرة حبهم ولهفتهم على محبيهم، كالتغني بذكر (ليلى)، و(لبنى) وغيرها.
وبعد أن يتغنى الشاعر بذكر الغضا وما فيه من مشاعر الشوق والحنين للأحبة والأهل، يذكر توبته، والتحاقه بجيش سعيد بن عفان رضي الله عنه، ومحاربته للأعداء.
ألَمْ تَرَني بعتُ الضّلالة بالهدى
وأصبحتُ في جيشِ ابن عفّانَ غازيا
وأصبحتُ في أرضِ الأعادي بعدما
أراني عن أرض الأعادي قاصيا
لينتقل بعد ذلك إلى رثاء نفسه، فيتخيل حديثا بينه وبين ابنته:
تقولُ ابنتي لمّا رأتْ طولَ رحلتي
سِفارُكَ هذا تاركي لا أبا ليا
فقد طال سفره وبعده عنهم، وهذا أقلقها وشعرت أنَّ هذا السّفر سيجعلها تبقى بلا أب.
ثم يعود مالك ليتحدّث عن نفسه، قبل أن يواروه الثرى، فمن الطبيعي أن تبكي البواكي على المتوفّى، ولكنّه هو غريب حزين وحيد، لا يوجد مَن يبكيه سوى سيفه ورمحه وفرسه الحزين على فراق صاحبه الذي تخطّفه الموت، ولم يجد بعده من يسقيه، فهو في مرو في خراسان وأهله في القصيم بأطراف السُّمَيْنة، فيقول:
تذكّرْتُ مِنْ يبكي عليَّ فلمْ أجدْ
سوى السَّيْفِ والرُّمحِ الرُّدَينيِّ باكيا
وأشقرَ محبوكاً يجرُّ عِنانه
إلى الماء لمْ يتركْ له الموتُ ساقيا
ولكن بأطرافِ السُّمَيْنَةِ نسوةٌ
عزيزٌ عليهنَّ العشيّةَ ما بيا
ثمّ يتحدّث عن القبر، وكيف أن صحبه جهزوا له اللحد بعد أن حان الأجل قرب مرو، فيطلب منهم أن يرفعوه لتقرّ عينه برؤية نجم سهيل، ولعلّه يستشعر الراحة برؤيته، وكأنه يرى وطنه.
أقولُ لأصحابي ارفعوني فإنّه
يّقَرُّ بعيني أنْ سهَيْلٌ بدا ليا
ولما شعر بدنو أجله طلب من صاحبيه أن ينزلا بمكان مرتفع، ليقيم بعض الليالي فيها، ريثما يجهّزانه للدفن، ويهيّئا له ورق السّدر ليغسلاه به، والكفن ليكفناه بعد الموت:
فيا صاحبَيْ رَحْلي دنا الموتُ فانزلا
برابيةٍ إنّي مقيمٌ لياليا
ويطلب الشاعر من أصحابه أن يحفروا قبره بأطراف الرماح، وهذا فيه دلالة على أنه رجل حرب، قوي شجاع مقدام، صعب قيادُه، يهجم في المعارك في الوقت الذي يحجم فيه الآخرون، فضلا عن أنّه صبور وحليمٌ لا يشتم أولاد عمّه وجيرانه، ولا ننسى أنّ المقام مقام رثاء، وقد درج الشعراء في الرّثاء على ذكر مناقب المرثي ومآثره، وشجاعته، وهذه صورة من صور المدح للمرثي، فرثى نفسه ومدحها في الوقت ذاته بأحسن الصفات التي يُذكَرُ فيها المتوفَّى، فيقول:
وقوما إذا ما استلَّ روحي فهَيِّئا
ليَ السِّدْرَ والأكفانَ عند فنائيا
وخُطَّا بأطرافِ الأسنَّةٍ مَضْجَعي
ورُدّا على عينَيَّ فضْلَ رِدائيا
خذاني فجُرَاني بثوبي إليكُما
فقدْ كنتُ قبلَ اليومَ صَعْبا قياديا
وقدْ كنتُ عَطَّافا إذا الخيلُ أدْبَرَتْ
سريعاً لدى الهيْجا إلى مَنْ دعانيا
وقدْ كنتُ صبَاراً على القِرْنِ في الوغى
وعنْ شَتْمي ابنَ العمِّ والجارِ وانيا
فقد أكثر الشاعر من أفعال الأمر في تلك الأبيات، ولكنها خرجت إلى الالتماس لأنها موجهة منه إلى أصحابه، نحو: (قوما، خُطّا، رُدّا، خذاني، جرّاني).
وفي هذه الأثناء يتذكر أمّه، ويتساءل إن كانت ستبكي عليه بعد سماعها خبر وفاته، كما كان سيبكيها هو لو سمع نعيها، فيقول:
فيا ليتَ شعري هل بكتْ أمُّ مالك
كما كنتُ لو عالوا نعيَّكِ باكيا
وبعد أن يدفنه صحبه ويتركوه في هذا المكان القفر، وحيدا، فإنّه يقلّب طرفه فلا يرى سوى رحله مؤنسا له، في حين أنّ لديه الكثير من البواكي في بلده، ومنهنّ أمّه وابنتاه، وخالته، إضافة إلى باكية تنوح وتبكي عليه، وتهيّج البواكي كلّما فترت همتهن، فيقول:
أُقلِّبُ طَرْفي حولَ رَحْلِي فلا أرى
بهِ من عيونِ المؤنساتِ مُراعيا
وبالرّمْلِ منّا نسوةٌ لو شَهِدْنَنِي
بَكَيْنا وفدَّيْنَ الطّبيبَ المُداويا
فمنهنَّ أمّي وابنتايَ وخالّتي
وباكيةٌ أُخرى تَهيجُ البواكيا
ممّا سبق يتبين كيفية رثاء الشاعر مالك بن الريب لنفسه، بقصيدة تخيّل فيها نفسه ميتا في مكان قفرٍ بعيدا عن أهله وأصحابه، ماله مؤنس فيه سوى سيفه ورمحه وفرسه.
لم يكن هو الشاعر الوحيد الذي رثى نفسه، ولكنه كان الأشهر بين أولئك جميعا، ولاقت قصيدته شهرة ما تأتّت لقصيدة غيرها في هذا المضمار، فاستحقّت أن تكون من عيون المراثي.
تحليل ونقد: ظلال عبود
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع
بتصرف عن:
الأعلام للزركلي: 5/ 261، والتكرار البياني وقضايا الشعر المعاصر: 1/ 280، ومجاني الأدب في حدائق العرب: 6/ 214، والشعر والشعراء: 1/ 341، وخصائص التراكيب دراسة تحليلية لمسائل علم المعاني: 1/ 181.