مضت أربع سنوات على فراقي زوجي، لا أدري أهو على قيد الحياة إلى الآن أم لا؟.. فكنت ما أزال عروسا لم يمض على زفافي شهر واحد، تركت دراستي الجامعية في بداية الأحداث التي شهدتها مدينة حلب والتحقت ببيت الزوجية، لم أكن أبالي بدراستي طالما هنالك من يساندني ويقف إلى جانبي.
زوجي كان موظفا في العشرين من عمره، وكل يوم يمر عبر طريق يقطعه حاجز للنظام ليذهب إلى عمله، وذات يوم ودعته كباقي الأيام من باب (الدار) وبعد أن مشى بضع خطوات، التفت إليّ وقال لي انتبهي لنفسك يا غالية، لأول مرة أشعر بنظرة غريبة في عينيه.. حدّق بي وكأنه يراني لآخر مرة.. وهذا ما قد حدث فعلا، فبعد ذلك اليوم ذهب ولم يعد.
وقفت طويلا على شرفة البيت أنتظر قدومه كالعادة، خيم الظلام ولم يعد بعدُ، قلت في نفسي علّه تأخر بسبب أزمة السير في طريقه إلى هنا.. لا بأس بذلك سأحضر العشاء ريثما يصل، حل الظلام ولم يعد، بدأت نيران الخوف تتقد في صدري، رباه ما الذي جرى! عساه بخير..
اتّصلت به طويلا إلا أن خطه مقفل، ذهبت لبيت أهله لأخبرهم بتأخره، اتصلوا بأصدقائه في العمل ولكنا فوجئنا عندما قالوا بأنه لم يأتِ اليوم، خرج إخوته بحثا عنه لعل أمرا حصل معه على الطريق ودون جدوى لم نلحظ له أثرا لا هنا ولا هناك وبدأت أقلق أكثر أين هو يا ترى؟ كلما قرع جرس الباب أركض كالمجنونة أقول في نفسي علّه يكون هو، لأصاب بخيبة أمل عند فتحه، منذ زواجنا لم يغب عني يوما كنت أعيش شهر العسل (كما يقولون)، ولكنه تحول لشهر حزن وقلق…
لا أدري كيف أغمضت عيناي المثقلة بالدموع وأنا أراقب باب البيت، أغفو قليلا ليحضر طيفه أمام عينيّ يتعالى صدى كلماته الأخيرة في أذني (انتبهي لنفسك يا غالية) أصحوا مرتعشة لأناديه (عمر)، أنظر ليميني لأرى مكانه خاليا بقربي، أين أنت يا عمر تبدو الغرفة موحشة في غيابك، كيف يغمض جفن لي وأنت خارج البيت لا أعلم أكنتَ بخير أم لا؟.
لجأت لله لأخفف اختناق قلبي، صليت في آخر الليل لكي يعود لي سالما، دعوته وبكيت، فما من أحد قادر على رده لي سواه، وبرحمة من الله بي جعلني أغفو على سجادة الصلاة دون أن أشعر، تعالت تكبيرات أذان الفجر وجاء اليوم الثاني وعمر ليس هنا قضيته عند بيت عمي أنتظر.. لعلّ خبرا يأتيني، في ظل أصوات أمه المرتفعة في البكاء أُصبّر نفسي أمامهم وأحدث نفسي سيأتي عمر، سيأتي عمر ما كنت لأستسلم أو أفقد أملي بعودته.
في هذه الأثناء كان إخوته مستمرين في عملية البحث عنه لم نترك قريبا ولا صديقا إلا وسألناه عنه لعلّه يأتي بخبر لنا عنه، وفعلا جاءنا خبر اختفائه، جاء حاملا معه مسيرة المعاناة التي تنتظرني ففي ذلك اليوم المشؤوم اعتقله النظام أثناء مروره عبر الحاجز، لماذا وكيف وإلى أين قادوه؟؟ أسئلة كثيرة لا نعلم لها تفسيرا، وما كانت عناصر النظام الطاغي لتتحدث أو لتخبرنا شيئا عنه، أنكروا اعتقاله! وكيف لأناس لا يعرفون الرحمة أن يقرّوا به، ومع ذلك لم أستسلم لا بدّ من طريقة لأعلم أين هو؟.
لم نترك شخصا له يد عند النظام إلا وأخبرناه.. منهم من قال هو في السجن المركزي في حلب، ومنهم من قال إنهم نقلوه إلى فرع حماه وبعد فترة قيل إنه قد يكون في سجون دمشق مع المعتقلين الذين بعثوا لسجن صيدنايا.. وهناك من يقول يريد مليون ليرة لإخراجه والآخر يقول سآتي بخبر عنه وأدعكم ترونه ومن ثم آخذ المال منكم، وفعلا قمت ببيع مصاغي ووالدته دفعت قسطا من المال كما قمت باقتراض مال من أهلي؛ فالغريق يتعلق بقشة.. ولكن كل عملنا ذهب هباءً منثورا إلى الآن لا خبر عنه.
بعد الكثير من المحاولات مازال مكانه فارغا بقربي ينتظر قدومه أربع سنوات على غيابه ما أزال على عصمته، أنتظره كل يوم في موعد رجوعه إلى البيت من العمل على الشرفة كما كنت أفعل في كل يوم، ومر الصيف والخريف والشتاء وأخضرت الحقول وأنا أنتظره وسأبقى على وعدي مابقيت الروح في هذا الجسد.
ذهب ولم يعد.. ما أزال عروسا في شهر العسل.. شهر الحزن الأبدي.. مع زوج يعيش في خيالاتي ويسكن قلبي.
مجلة الحدث – نور سالم