أحس الصبي بانقباض في قلبه، وهو يستعيد ما حدث في صباح 8 آذار/ مارس قبل ثلاث سنوات، حين رأى أباه يرتدي بدلة قديمة ويعتمر طربوشاً غريباً، ثم يقبله ويغادر البيت خلسة إلى بيروت. ولأنه لم يجرؤ على سؤال الأب، توجّه كعادته إلى أخيه بشار…
يروي الكاتب السوري وائل السوّاح ذاكرة مدينة حمص السورية في ستينات القرن الفائت، من خلال عيني ولد عاش الفترة صبياً ومراهقاً.
لم يكن شباط/ فبراير 1966 شديد البرودة، لذلك لم يسِء الصبيَّ كثيرا أن يذهب إلى المدرسة بدون معطف فوق صدرية المدرسة السوداء التي كان يضعها فوق كنزة وبنطال وينتعل حذاءه الوحيد الذي كان بدّل للتو كعبيه وألصق فوق نعله عند الكندرجي أبو عبد المهيمن في شارع باب هود، نصفَ نعْلٍ جديداً. نصف النعل كان الحلّ السحري والرخيص لاهتراء نعل حذاء أطفال حمص ورجالها في الستينات. كان الأولاد في الطبقة الوسطى الحمصية يحصلون عادة على حذاء واحد في السنة، وحين يبرى نعلاه، يتقاطرون إلى دكان كندرجي الحارة، فشراء حذاء جديد كان خارج النقاش. تغيّر كلّ ذلك اليوم، فما عاد نعل الحذاء يصنع من جلد البقر، ودخل المطاط والمواد الصناعية في صناعة الأحذية.
ولم يكن في تركيب نصف النعل ما يعيب، وفي مدرسة الصغير كان تسعة من كل عشرة أولاد ينتعلون حذاء بنصف نعل. ولكن ذلك لم يكن الطريقة الوحيدة لخفض النفقات لدى الطبقة الوسطى الحمصية (والفقيرة بطبيعة الحال)، بل عرفت الكثير من العائلات رتق الملابس، الذي كان يتمّ إما في البيت أو أحياناً عند الرتّاء. وكان الرتّاء يتمتّع باحترام عائلات المدينة، وأطلق عليه ظرفاء حمص اسم ستّار العيوب. وكان أقرب إلى الفنّان منه إلى الحرفي، وهو يعمل بصبر وأناة على معالجة العيب أو التمزّق في الملابس لكي تخرج القطعة من تحت يديه بشكل لائق. كأنها جديدة، كما كانت الأمّ تقول أحيانا. بالمقابل، كانت الأسر الأشدّ فقرا تقوم بلصق رقع فوق التمزّق، أحياناً بقطعة قماش قريبٍ لونُها من لون القميص أو البنطال، وأحياناً بلون مختلف تبرز الرقعة للعيان.
ثم كان فنّ تدوير الملابس بين الإخوة من الأكبر إلى الأصغر سناً وحجماً، ومقاماً. لم يرتدِ الصغير أيّاً من ملابس أخوته لأن الأم لم تكن تجيد الخياطة، ولكن الكثير من أولاد الحارة كانوا يخرجون من بيوتهم، وهم يضعون قمصان أخوتهم، وقد دوّرتها الأمّ لتناسب مقاس الصغير، وما كان ذلك ليلفت انتباه أحد ولا ليُعتبر أمراً غير محمود. أما ما قام به الصبي شخصياً لخفض النفقات فهو إعادة تدوير كنزات الصوف، من خلال كرّ الكنزة ولفّ خيطان الصوف في كركر صغير. كانت مهمة الصبي الإمساك بالكنزة القديمة وسلّ خيطانها، بينما تقوم الأم بلفّها على شكل كرةٍ كان الصبي يُشْدَه وهو يراها تكبر وتكبر أمام عينيه، قبل أن تستحيل إلى كنزة أخرى على قياسه.
لم يكن شهر شباط 1966 شديد البرودة، إذاً، لذلك لم يُسِء الصبي كثيرا أن يذهب إلى المدرسة بدون معطف فوق صدرية المدرسة السوداء. كان يوم أربعاء، وهو يوم مدرسي طويل، يذهب فيه الصبي إلى المدرسة لأربع ساعات صباحا، ثم ساعتين بعد الغداء. ولكن ما إن وصل الصبي إلى المدرسة، حتى وجد مدير المدرسة والأستاذ أمين، المعلّم المخيف، الذي كان يمسك على الدوام بعصاه ويلوي كلا شفتيه تحت أسنانه بإحكام عندما ينهمك بضرب التلاميذ، واقفَين عند الباب وهما يطلبان من الأولاد الرجوع إلى البيت.
يوم عطلة!
“ع البيت رأسا إنت وإياه. قولوا لأهلكم اليوم عطلة. ما في مدرسة”، كان الأستاذ أمين يصيح، ملوّحا بعصاه، بينما كان المدير يبتسم وثمّة على وجهه قلق بادٍ لم يستطع الصبي تفسيره. التفت الصبي، فوجد غير بعيد عنه صديقه وجيه سنبل، وكان بيته يكاد يلاصق المدرسة: بيت عربي من غرفتين، على كتف زقاق المدرسة. وكثيراً ما كان الصبي يمضي بصحبة وجيه ساعات يلعبان في حوش الدار الصغير.
“فوت!” قال وجيه يدعو الصبيّ، ولكن الأخير شعر بأن في الأمر شيئاً غير مفهوم، فآثر العودة إلى البيت، فمضى يجري، وارتقى الدرجات مسرعاً كعادته، درجتين في كلّ قفزة، وطرق الباب ففتحت له أمّه، فبادرها قبل أن تسأله: “المدرسة مسكرة. رجّعونا”. ووجد مجلس العائلة منعقداً، فعرف أنه لا يحمل لهم أخباراً جديدة. كان الأب يستمع إلى الراديو، وقد جلس على جانبيه كلّ من سحبان وبشّار. ومن الراديو الترانزستور الأليف، خرجت موسيقى مارشات عسكرية، وبين الفينة والأخرى، كان صوت المذيع يخرج متحشرجاً ليتلو بلاغاً جديداً، أو يعيد تلاوة بيان سابق. وتناهت إلى سمع الصغير عبارات من مثل “منع التجول” و”وقف الدستور” واعتقال رئيس الدولة.
أحس الصبي بانقباض في قلبه، وهو يستعيد ما حدث في صباح 8 آذار/ مارس قبل ثلاث سنوات، حين رأى أباه يرتدي بدلة قديمة ويعتمر طربوشاً غريباً، ثم يقبله ويغادر البيت خلسة إلى بيروت. ولأنه لم يجرؤ على سؤال الأب، توجّه كعادته إلى أخيه بشار.
“رح يهرب أبوك كمان؟” سأله.
-“لا طبعاً. نحنا مالنا علاقة. هاي مشاكل بين بعضن.
-مين هنّي؟
-البعثية!”.
ثم سمع أباه يشرح الوضع لأمه. هذا انقلاب قام به صلاح جديد ضدّ ميشيل عفلق وصلاح البيطار. وسألت الأم إن كان ذلك أمراً حسناً، فأجاب الأب بإيجاز بليغ وقاطع: “في بالحزب كم واحد فهمان، طيروهم”. فسكتت الأم، وسكت بشار، وسكت سحبان، وسكت الصغير. بعد قليل سمع الجميع ضجّة في الشارع، فهرع الصبي إلى راكضاً، ورأى رفاقه يركضون يميناً، صوب طريق الشام، فتبعهم، ورأى للمرة الأولى عربات عملاقة تجري على جنازير، وفوقها برج بسبطانة مدفع هائلة، ومن فوهة في سقف العربة يطلّ رجل بلباس عسكري وخوذة وبندقية.
“هاي دبابات”، شرح أكبر أصحابه سناً. وعدّ الصبي ما يزيد على عشرين دبّابة، كانت تسير ببطء وتثاقل متجهة شمالاً فوق إسفلت الشارع الرئيسي في قلب البلد، مخلّفة وراءها بثوراً تشبه بثور جدري خبيث على الوجه. أحس الصبي بالوجل والرهبة والجلال.
بعد أيام سيشعر الصبي بالبهجة حين سيغدو جاره رئيساً للدولة. حين كان الصبي ينحدر من بيته إلى طريق الشام، حيث مكتبة ميسلون لشراء قلم أو دفتر، كان يرى لوحة معدنية سوداء كتب عليها بخط أبيض اسم “الدكتور نور الدين الأتاسي”، وكان الصبي يعرف أن جاره الطبيب لم يكن في العيادة لأنه صار وزيراً للداخلية في حكومة البعث. كان نور الدين الأتاسي طيب القلب حمصياً، حين كان الصبي يرى صورته في الصحف، كان يفكر في طفل صغير كامل الصحة يشرب الحليب ويأكل البيض كلّ يوم. هذا الرجل سيغدو بعد أيام من انقلاب 23 شباط رئيسا للدولة وأميناً عاماً للحزب. وسيظل رئيساً مدة تقارب الخمس سنوات، ستشهد فيها البلاد أكبر كارثة أحاقت بها – حرب حزيران، وحين سيرسل الأتاسي جيشه إلى الأردن ليدافع عن الفلسطينيين في أيلول الأسود، سيقود ضابط سوري لم يكن اسمه يبرز كثيرا في الإعلام، هو حافظ الأسد، انقلابا ضدّه، فيضعه في السجن مدة اثنتين وعشرين سنة. ورغم أن الصبي لم يكن يحب البعثيين لأنهم أغلقوا جريدة أبيه، وأجبروه على الهرب إلى بيروت، وخفّضوا “خارجيته” من ثلاثة فرنكات إلى فرنكين، فإن فكرة أن جاره في الحارة هو رئيس البلاد كانت تثير لديه بعض الشعور بالفخر الذي كان يغالبه، ويحاول ألا يبديه. ولم يخفّف من هذا الشعور ما كان يسمعه من أبيه عن أن الرجل لا يحكم البلاد فعلاً، وأنه مجرد واجهة يحكم من ورائها الرجل القوي وقتها صلاح جديد، فبينما كان الأتاسي رجلاً له صورة ومكان إقامة وعيادة، كان جديد وسيظلّ دوماً الرجل المختفي وراء الستار، الذي يحرّك اللعبة بغموض.
سيرى الصغير موكب الأتاسي مرّتين. في المرّة الأولى، سيرى سيلاً من السيارات تتقدمه الدراجات النارية، تدخل المدينة، وتقف قرب بيت الصغير. كان يلعب في الحارة، حين سمع زعيق الدراجات النارية، فركض صوب طريق الشام، ورأى الموكب يتوقّف عند العيادة، ويترجّل منها الرجل الذي يشبه الطفل الصغير المعافى، فيصعد الدرج، ليطمئن على عيادته ربما، قبل أن ينزل من جديد، ويتابع إلى بيته، القريب في أي حال من بيت الصغير، أيضاً. حين رأى الصبي الرئيسَ، ركض إلى البيت وأخبر أمه بذلك، بشيء من الفخر. وأكّد لها: “شفته بعيني!”.
موكب أخير
في المرّة الثانية، كان الصبي قد كبر واشتغل في السياسة واعتقل عشر سنوات وأُطلق سراحه. بعد إطلاق سراحه بأقلّ من عامين، سيشارك هو نفسه في موكب آخر لنور الدين الأتاسي، ولكن هذه المرّة لوداعه الوداع الأخير. كان الرجل قد أصيب بالسرطان، وقرّر الأسد أن يفرج عنه، كيلا يموت في سجنه، ويسأل عن ذلك. وفي 2 كانون الأول/ ديسمبر، مات الرجل، وخرجت المدينة معظمُها في جنازة مهيبة بالسيارات، بدون زعيق ولا هتاف، بل كان رتْلُ السيارات يصدر زموراً واحداً متقطّعاً مرة كلّ أربع ثوانٍ، وبإيقاع موحد، حزين وعميق وجليل.
كان الصبي لا يزال ينظر إلى الأثر الذي خلفّته الدبابات في الشارع أسفل بيته، حين سمع والدته تناديه من على الشرفة. فترك رفاقه وصعد إليها. كانت تريد أن تستفيد منه. فإذا لم يكن في المدرسة، لم لا يقوم بعمل مفيد؟ ثمّ أرسلته إلى عبد الباسط الخضري في أول شارع باب هود، ليشتري لها بصلا. وفيما كان منهمكا بتعبئة الكيس الورقي الأسمر بالبصل الأبيض الصغير، سمع رجلين يتحدثان عن الانقلاب. ولسبب ما أحسّ الصبي أن الرجلين لا يعرفان حقيقة ما حصل، فأراد أن يبيّن مدى معرفته، ويبيّن لهما الأمر، فرفع رأسه وقال والكيس لا يزال بين يديه:
“القصة أن صلاح جديد عمل انقلاب على أمين الحافظ”.
نظر الرجلان إليه بدهشة، بينما سارع عبد الباسط بصلعته اللامعة وشاربيه السوداوين، يقاطعه ويقول بجفاء:
“عمّي، نحن هون محل خضرة، مو محل سياسة، الله يرضى عليك”.
شعر الصغير بمزيج من الخجل من نفسه ومن الاضطهاد والقمع، ولكنه عرف لحظتها أن ما يقال في البيت ليس بالضرورة صالحاً لإعادته في الشارع أو عند الخضري. وبدأ يتعلّم أن “يدفّي لسانه”، وهي النصيحة التي سيقدمها له بعد سنتين أو ثلاث أمين المكتبة في مدرسة خالد بن الوليد الإعدادية، حين سمع الصبي ينتقد حكم البعث في باحة المدرسة، فاستدعاه الرجل الذي كان على وشك التقاعد، وكان صديقاً لوالده، فأجلسه أمامه، وقال له:
“يا وائل ما كل شي منسمعه بالبيت منعيده بالمدرسة. بدك تدفي لسانك”.
وتعلّم وقتها كلمة مجازية جديدة، ثمّ تعلّم أن الحيطان لها آذان، وتعلّم أن من الحرص ألا يأمن لأي من أصدقائه إلا ما ندر، وتعلّم أن طول اللسان يمكن أن يؤذي والده. ولكنه حين كان يذهب في بعض الأمسيات إلى القهوة حيث والده يجالس أصحابه ويلعب معهم الورق ويتناقشون في السياسة، كان يستغرب نقاشهم الواضح والمنتقد بصوت عالٍ، ومن دون خوف أو اهتمام بأن يسمعهم أحد.
بعد 23 شباط، سيتعلّم كلمات جديدة في السياسة. ستتكرّر أمامه في المدرسة كلمات مثل “الاشتراكية” و”الكادحين” و”التقدمية” و”الرجعية”. سيتعلّم أن انقلاب شباط كان ضدّ “الرجعية والتجزئة والاستغلال”. وسيتعجّب من رؤية رئيس الوزراء يوسف زعيِّن وكلّ وزرائه وهم يرتدون بدلات الخاكي بدلاً من البدلات الرسمية وربطات العنق، ويركبون سيارات “فولكس فاغن” صغيرة بدل المرسيدس والسيارات الكبيرة. ولم يكن ليعرف إذا كان ذلك أمراً محموداً أم لا. أبوه كان يكرّر أن حكام البلاد مجموعة من الأولاد، يعتقدون أن الحكم مثل لعبة “الضيفة والضيوف”، ولكنه سيغيّر رأيه بعد 16 شهراً، حين ستسقط القنيطرة وتتلقى سوريا أكبر هزيمة لها. حينها سيقول إن البلاد يحكمها خونة. أما الصغير، فسيحفظ قصيدة لم يعرف كاتبها وقتها، ونُسبت لأكثر من شاعر، تقول أبيات منها:
صبيان البعث قد اجتمعوا
ماخوس* وزْعَيِّن والأكتع
فتصدّى نوري وقال لهم
ما عاد الطب بنا ينفع
بعنا الجولان برمتها
وقبضنا من ثمنها أجمع
(الدكتور إبراهيم ماخوس كان وزيراً للخارجية في حكومة 23 شباط، والدكتور يوسف زعين، كان رئيس الوزراء في حكومة 23 شباط، والدكتور عبد الرحمن الأكتع، كان وزيرا للصحة في حكومة 23 شباط، ونوري: تصغير من نور الدين لسلامة الوزن)
وحين سيتلو القصيدة على مسامع والده، سيتبسّم الأب، ثم سيتجهّم وجهه، ثم سيقول له بصوت حازم: “لا تروِ هذه القصيدة على أحد. أتسمع؟”.
وسيهزّ الصغير رأسه أن نعم. إنه يسمع.
نقلا عن وكالة درج