مشروع اقتصادي مربح
يستنتج تقرير حديث صادر عن “معهد الشرق الأوسط” أن سياسة فرض الحصار في سورية
لم تعد مجرد تكتيك عسكري يهدف إلى إخضاع الخصم وإنما أصبحت مشروعاً اقتصادياً مربحاً تنخرط به شبكة معقدة من رجال الأعمال والتجار فضلاً عن اللاعبين العسكريين وجميعهم يجنون الأرباح على حساب المدنيين المحاصرين. وعليه، يعتبر أن “الحافز الاقتصادي أحد المحركات الرئيسة لسياسة الحصار والتي أصبحت جزءاً من اقتصاد الحرب في سورية”.
وعائدات التربح من الحصار يتشارك فيها الجميع، وتصل تلك العائدات إلى القيادة العليا للنظام السوري التي تمنح عقود إدخال السلع الغذائية للمناطق المحاصرة إلى تجار مرتبطين بها.
وقد وفّرت نقاط التفتيش التي أقامتها قوات النظام السوري على مداخل المناطق المحاصرة فرصة ذهبية للقوات المرابطة عليها لجني الأرباح وذلك بتشجيع من قبل النظام بسبب عجزه عن دفع رواتب مجزية لجنوده وخصوصاً في ظل تدهور سعر صرف العملة السورية.
يقول الناشط زاهر السكري من الغوطة الشرقية لـ “العربي الجديد” إن استحواذ الجنود على كامل الأرباح “كان في بداية عمليات محاصرة المناطق فقط، أما عندما شعر النظام بحجم الأرباح وطول أمد المعركة وبالتالي طول أمد الحصار كتجارة مربحة، فتعقدت تلك التجارة ونسجت شبكة معقدة من العلاقات التي باتت تتشارك الأرباح من جهة وتعمل على تعظيم الربح من جهة أخرى. وذلك بالتركيز على استهداف الأراضي الزراعية في الغوطة على سبيل المثال وانتزاع السيطرة عليها لحرمان السكان من أي مصدر غذائي مستقل يهدد المشروع التجاري المربح للنظام وشبكته”.
إنه تأكيد آخر على أن العمل العسكري للنظام السوري في بعض المناطق ينطلق من غاية تحقيق الأرباح وليس لتحقيق أهداف عسكرية استراتيجية. ويؤكد تقرير “معهد الشرق الأوسط” ذلك باستحضار قصة رجل أعمال ثري في العقد الخامس من العمر يدعى أبو أيمن المنقوش ويعتبر “أكثر تجار الغوطة الشرقية شهرةً”.
استخدم المنقوش علاقاته الشخصية مع النظام السوري لإدخال الغذاء إلى المنطقة المحاصرة، وقام مقابل ذلك بنقل منتجات الألبان والأدوات الكهربائية من المنطقة إلى دمشق. وعلى الرغم من عدم توقيع هدنة لوقف إطلاق النار، “تفادت منطقته المحلية، وتدعى مسرابا، معظم هجمات النظام فيما بدا كجزء من الترتيبات بينهما، بحيث يستفيد النظام بأخذ حصة من أرباح المنقوش”.
ويشير التقرير إلى أنه ومنذ ربيع العام 2014، فرض جنود الأسد رسوماً بقيمة دولارين على كل كيلوغرام من الطعام الذي يتم إدخاله إلى الغوطة الشرقية. أما دفع تلك الرشاوي فلم يقم به المدنيون بشكل مباشر بل كانت تُدفع عبر وسطاء هم تجار اعتادوا العمل داخل مناطق الحصار قبل بدء الصراع.
وبعد دخول البضائع، يقوم التاجر بتخزينها، ثم توزيعها بحذر وضمن حساباته الخاصة التي تضمن له أن يحصل على أكبر ربح ممكن. هذا ويحدد التجار أسعار السلع بزيادة تبلغ 70 في المائة عنها خارج المناطق المحاصرة بحسب التقرير.
حصار المناطق الموالية
يبدو أن سياسة جني الأرباح من حصار المدنيين باتت متأصلة لدى النظام السوري، إذ يدفعه الهوس بتحصيل الأموال وانتزاعها عنوة من المدنيين إلى حصارهم حتى في المناطق التي يسيطر عليها. ويذكر التقرير مثالاً هو مدينة دير الزور التي يسيطر عليها النظام ولكنها محاصرة من قبل “داعش” أيضاً.
في تلك المدينة، تفرض القوات الحكومية الكثير من القيود على دخول السلع وعلى حركة السكان، وهو ما يعني أن السكان المدنيين يخضعون للحصار في حقيقة الأمر من قبل الطرفين، داعش والنظام السوري. ويشير التقرير نقلاً عن مقيمين سابقين في المدينة أنهم دفعوا للنظام بين 150 ألفاً و300 ألف ليرة سورية (625-1360 دولاراً) من أجل الخروج منها.
لا بد أن الأعداد الهائلة للمدنيين داخل المناطق المحاصرة تسيل لعاب القوى التي تفرض الحصار من أجل انتزاع الأرباح. تقدر الأمم المتحدة أعداد المحاصرين في سورية، قبل حصار حلب، بنحو 600 ألف.
ولكن تلك التقديرات مضللة إلى حد كبير إذ تصنف الأمم المتحدة العديد من المناطق المحاصرة بالفعل كمناطق يصعب الوصول إليها، وهو ما جعل منظمة أطباء بلا حدود تقدر أعداد المحاصرين بنحو مليونين، أي ما يوازي تقريباً عدد سكان دولة قطر ونصف عدد سكان لبنان.
وكتحدٍ للحصار المفروض عليهم، اتجه السكان إلى الزراعة في الأرياف على نحو خاص كالغوطة الشرقية ولكن أيضاً في المدن. على سبيل المثال، بدأ عدد من سكان حي الوعر المحاصر في مدنية حمص قبل أكثر من عام بـ “زراعة شرفات المنازل وبعض المساحات التي يمكن أن تصل إليها الشمس” يقول الناشط فراس الحمصي لـ “العربي الجديد”.
ويضيف: “أصبح تهريب البذور في المناطق المحاصرة امرأ يوازي بأهميته تهريب السلع الغذائية من أجل نجاح تجربة الزراعة، إذ نستطيع تجفيف بعض البذور والاحتفاظ بها ولكن بكميات ضئيلة ولا بد من الاعتماد على التهريب”.
وكذلك الحال في مدينة حلب التي نجح النظام في إحكام الحصار حولها، قبل فكّه منذ أيام، وهو ما عرّض حياة 300 ألف مدني للخطر. ويقول الناشط معلا حمادة لـ “العربي الجديد”: “لم نتعرض من قبل للحصار، لذلك لم نشغل بالنا كثيراً بالزراعة داخل أحياء المدينة. ولكن، بعد أن وقع الحصار بالفعل وارتفعت الأسعار على الفور صرنا نشاهد العديد من السكان يهتمون بالزراعة في منازلهم، على الأسطح، على الشرفات، بل حتى على النوافذ”.