يبدو القول إن الكرد ووجودهم في المجتمع السوري حالة طارئة، تزييفاً للحقائق وافتقاراً للصدقية التاريخية، وما وقوفهم الى جانب الشعب السوري بكل أطيافه في مرحلة ثورة الاستقلال إلا دليل على زيف ما قيل. فقد كان للكرد ومنذ تأسيس الدولة السورية الحديثة دور بارز في تعزيز وتقوية هذه الدولة، لكن سيطرة فكرة الدولة القومية التي نضجت وترسخت مع استيلاء «البعث» على السلطة في سورية، وما نتج من ذلك من تعريب وطمس للهوية الكردية ومن تهميش، كل هذا أدى إلى تعميق التصدع في العقد الاجتماعي الذي تم من خلاله ربط الكرد وغيرهم بالدولة السورية المركزية.
مع اندلاع الثورة السورية لم يتردد الكرد في احتضان الثورة بل شاركوا فيها بكل طاقتهم، بخاصة أن لهم تجربة مريرة من التصدي لعنف «البعث» وإجرامه خلال عقود، كما حصل عام 2004 في قامشلو. لقد اعتبر الكرد ثورة 2011 فرصة حقيقية لإعادة اللون التشاركي في الحياة السورية وإعادة إحياء العلاقات الإيجابية داخل الطيف السوري المتنوع والذي عملت دولة «البعث» الشوفينية على إلغاء وجوده على مدى عقود من حكمها الجائر، كما أنهم فضلوا منطق الوطنية والأخلاق على مبدأ التحول إلى تابع مسلوب الإرادة، على ما هي حال بعض المعارضات السورية، حيث رفض الكرد أن تكون مناطقهم مناطق تآمر او اتفاقات تضر بمستقبل الشعب السوري وحرصوا على تشكيل ائتلاف واسع أخذاً في الاعتبار حقوق عموم السوريين من سريان وآشوريين وكلدان وكرد وعرب ودروز وشركس وأرمن وتركمان. فلم يكن هذا السلوك الائتلافي مجرد منصات لإصدار بيانات خطابية أو التشدق بشعارات رنانة خاوية، بل كان واقعاً مطبقاً على الأرض في كل المناطق الواقعة ضمن نظام الإدارة الذاتية في شمال سورية (روج آفاي كردستان).
من ناحية أخرى، فشلت القوى الأخرى في إنتاج حل يرضي عموم السوريين على اختلاف منابتهم، ولفشلها في بناء ذلك، لم تتوقف هذه القوى عن بذل كافة المحاولات وتسخير جميع إمكاناتها لأجل هدم المشاريع التي تخدم المصلحة الوطنية وتبني وطناً يتعايش فيه جميع السوريين بسلام، من كيل الاتهامات وتشويه الحقائق. فبعض القوميين العرب يتهمون القوى العاملة تحت السقف الوطني السوري، ومنهم الكرد، بأنهم انفصاليون، أما الردايكاليون الثيوقراطيون فيريدون تحويل الأمور باتجاه العقيدة الدينية، عبر الانتقاص من اسلام الكرد وشنّ كل هذه الحملات العنصرية لإفشال المشروع الديموقراطي الذي تبنته تلك الإدارة الذاتية.
حتى بعض الديموقراطيين في قيادة المعارضة السورية المدعومة تركياً لم يتوانوا عن تصدير إشكاليات الصراع الكردي – التركي إلى سورية، نتيجة للاحتضان والدعم التركي لهم. وهذا علماً أن تركيا لم تتحرك تجاه ما يقوم به نظام الأسد الاستبدادي من إبادة وتدمير في مدينة حلب وغيرها، ونحن نرى الآن أن هذه الازدواجية المقيتة للموقف التركي يبررها بعض المعارضة السورية بحجة أن في الموقف الأردوغاني احتراماً لسيادة الدولة السورية، وبخاصة في غياب توافق دولي على إسقاط الأسد، فيما لم نرَ أن في وسع تلك السيادة التي يتحدث بها هؤلاء المعارضون منع تركيا من دخول الأراضي السورية وضرب «قوات سورية الديموقراطية» والتي تشكل وحدات حماية الشعب والمرأة عمودها الفقري.
إن للصراع الكردي التركي خلفياته التاريخية الممتدة إلى ما قبل تأسيس دولة تركيا الحديثة، ومن الخطأ تصدير هذا الصراع إلى سورية التي تحتاج في هذه المرحلة إلى توحيد كل الجهود وتوفير الدعم للحفاظ على تلك الوحدة بالقضاء على الإرهاب والنظام المجرم وعبر الاتفاق على عقد اجتماعي يضمن حقوق كل المكونات المشكّلة لسورية.
صحيح أن حكومة أردوغان سمحت بدخول اللاجئين السوريين وأمنت مقرات آمنة للمعارضة السورية السياسية والعسكرية، إلا أنها في الوقت نفسه حصلت على المنح المالية الضخمة في مقابل ذلك، ناهيكم عن أن الدعم العربي والغربي للمعارضة السورية كان يمر عبر البنوك التركية، والأهم من هذا استخدام حكومة أردوغان للاجئين ورقة ابتزاز مالي، كما يحصل حالياً مع الاتحاد الأوروبي.
وعلى رغم أن حكومة أردوغان استضافت المعارضة السورية وقدمت لها الدعم، إلا أنها باتت تتحكم بالقرار الوطني السوري من خلال معارضة مترهلة كهذه، همّها سوق الاتهامات وهدر الجهود، وفشلت في تمثيل وقيادة الثورة السورية الواضحة الأهداف. فالائتلاف، كإطار جامع لمختلف القوى والأحزاب المعارضة، لم يتمكن من التعبير عن تنوع المكونات السورية، وعلى رغم وجود بعض الشخصيات أو بعض التشكيلات التي تدعي هذا التمثيل، فهي في الواقع لا تملك التواجد الفعلي في الداخل السوري، وبالتالي لا تمثل إلا نفسها. فحتى الكتائب المدعومة اليوم من تركيا هي في غالبيتها كتائب مؤدلجة ذات ارتباطات إسلامية جهادية غير قادرة على إقناع العالم وحلفاء تركيا بصلاحيتها للحكم، وهذا ما يبرر عدم تمكن تركيا من الدفاع عن حلفائها في أهم مدينة سورية وهي حلب.
إنني أدعو جميع المعارضات السورية المؤمنة بوحدة سورية واستقلال قرارها الوطني وبضرورة تغيير دستورها الذي ركز السلطات في حكومة مركزية همّشت المكونات السورية المختلفة واحتكرت الحياة السياسية، أن يعوا حجم المأزق الحالي، وأن يمدوا أياديهم لشركائهم في الوطن من الكرد وغيرهم، فمناطق تواجد «قوات سورية الديموقراطية» جاهزة لتأمين استضافة المعارضة الديموقراطية كي نعمل معاً للحفاظ على ما تبقى من سورية.
إنها دعوة للسلام والتوافق، فهل من مجيب؟
الحياة – آلدار خليل