الوطن ما يقطُنني وليس ما أقطُنه، هي داريا بربع مليون مدني وسبعمئة مقاتل كتبت تاريخاً خاصاً بها، وتحوّلت عبر مسيرتها من المدركات الحسية إلى المدركات العقلية، لتشكل رمزاً ومفهوماً وتصوّراً خالصاً، سيعجز كلّ الطغاة عن إزالتها بداخل كل سوري.
داريا الصامدة أربع سنوات بوجه نظام الأسد اتخذت في 26 من أغسطس/ آب 2016 قراراً حاسماً، دخلت بموجبه التاريخ مقابل تسليم الأرض للنظام باتفاق أفضى إلى إجلاء قرابة خمسة آلاف مدني إلى بلدات ريف دمشق و700 مقاتل إلى الشمال السوري، وبالتحديد إلى إدلب.
مشهدٌ أعاد إلى ذاكرة كلّ سوري حيّ سيناريوهات سابقة، كتسليم حمص القديمة قبل نحو عامين والقصير والزبداني واليوم داريا، ولكن لماذا؟ لماذا تكون هكذا الخاتمة؟ في أقسى أنواع الظلم والقهر والعذاب، حيث يترك سكان الأرض مدينتهم بدموع قهر الرجال وآهات الثكالى وغصة اليتامى وصيحة الأطفال وفراق للشهيد.
علينا أن نقرّ بالحقيقة، وإلا فلن يرحمنا التاريخ. داريا منذ 2011 كانت من أوائل من انتفض بوجه النظام، وشكلت رمزية بسلمية الثورة في أول مظاهرة سلمية كانت في 25 من مارس/ آذار2011، إنّها جمعة العزة، التزمت داريا حينها بشعار السلمية، وشكّلت نموذجاً للإدارة المدنية عبر مجلسها المحلي، والذي جسّد الديمقراطية من خلال خضوع المكتب العسكري فيها للسلطة السياسية، وهذا العمل هو ما ميّز داريا في سورية.
بسبب الوعي الثوري عند شبابها، وجميعنا لن ينسى غياث مطر حامل الورد، صاحب المبادرة الوردية، إذ كان يبادر عناصر الأمن بتقديم الورد، فقوبل بالمكافأة، باعتقال تعسفي من قبل شبيحة النظام في 6 سبتمر من العام نفسه، وقضى شهيداً تحت التعذيب. حال غياث فتح شهية النظام لحال نشطاء آخرين عديدن، وما كان اللجوء إلى خيار السلاح إلا بسبب إفراط النظام باستخدام سياسة الحصار التي فرضها في بداية 2012 على داريا، وعلى معظم بلدات الغوطتين الشرقية والغربية، واستوحش حينها بالقصف الممنهج بالبراميل المتفجرة، ليصل الأمر إلى ارتكاب أكبر مجزرة في أغسطس/ آب 2012 راح ضحيتها أكثر من 700 شخص.
لم يكتف النظام بهذا، بل استمر بالإجرام واتباع سياسة الأرض المحروقة، خصوصاً مع دخول سلاح الجو الروسي في سبتمبر/ أيلول 2015 واستخدام الأسلحة المحرّمة دولياً من فسفور ونابالم وعنقودي، ما أدى إلى استنزاف كبير للحاضنة الشعبية، وتردّ في الوضع المعيشي، ومع ذلك، لم تتزعزع عزيمة ثوّار داريا، بل زادت إصراراً في الصمود، وتحدي الواقع، حيث استمرّت المقاومة خمس سنوات مضت، متأملين من جيرانهم ثوار الجبهة الجنوبية، وجيش الإسلام وفيلق الرحمن وجيش الفسطاط في الغوطة الشرقية النهوض، وتلبية نداء الاستجارة والاستغاثة… لكن، هل انتهت هذه الآمال بالسقوط، وشكلت خيبة أمل كبيرة، ليس فقط على مستوى الفصائل، بل على مستوى العالم والمجتمع الدولي.
بدون استثناء، جميعنا خذل داريا، وكانت نتيجة الخذلان استغلال النظام هذه النتيجة، فأطبق الحصار عليها بشكل كامل في يونيو/ حزيزان الماضي، وفصل داريا عن جارتها المعضمية، بعقد الأخيرة هدنة مع النظام، وتقدّم بعدها بإسناد روسي وسيطر على المزارع المحيطة بها، ما يعني حرمان أهلها من السلّة الغذائية، وأصبح الوضع أكثر سوءً، وخرجت المدينة عن الحياة بعد استهداف المشفى الرئيسي بأسلحة النابالم المحرّمة دولياً، في منتصف أغسطس/ آب 2016، فكانت النتيجة التي وصلنا إليها، هي خروج مشرّف وعزة لأهالي داريا وثوارها، ووصمة عار على جبين كل الفصائل في سورية.
على الرغم من ذلك، تبقى العبرة التي يجب أن نستنتجها من مشهد داريا، أنّها كانت، وستبقى، أيقونة الثورة من خلال النماذج التي قدّمتها من وحدة الصف والابتعاد عن صراع ملوك الطوائف. لذا، غدت إلى الآن المثال الأول، وقد يكون الأخير في المحافظة على روح الثورة السلمية، ولأنّها أصرّت على ذلك تركت الأرض ودخلت التاريخ.
العربي الجديد – يمان دابقي