مسارات عدة تتبعها روسيا في مدينة حلب، العاصمة الاقتصادية لسورية، في سبيل السيطرة عليها، بدءاً بالمسار العسكري عبر أعنف قصف على المدينة تجاوزت حصيلته الخمسمائة قتيل ومئات الجرحى، خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، مروراً بالمسار السياسي من خلال لقاءات مستمرة مع الأطراف الفاعلة المؤثرة بالملف السوري، وليس انتهاء بالمناورات والخدع، والتي كان آخرها الدعوة لانسحاب “جبهة فتح الشام” من المدينة لتنفيذ هدنة إنسانية، وسط عروض مستمرة للاستسلام والخروج من المدينة. وفي وقت كانت الطائرات الروسية تبدأ صباحها المعتاد بالقصف المكثف على أحياء حلب، خرجت وزارة الدفاع الروسية لتعلن بشكل مفاجئ وقف الغارات الجوية الروسية وتلك التابعة للنظام السوري على المدينة، لضمان خروج المدنيين من شرق حلب، حسب قول وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، ليؤكد بعده وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن وقف الطلعات يهدف إلى “إبداء حسن النية”.
وتعمد موسكو إلى تنويع أفعالها سورياً، فيما تنشغل الولايات المتحدة والدول الأوروبية والإقليمية بردات الفعل. ويتضح الخداع الروسي بالعرض الأخير المقدّم للمعارضة السورية عبر هدنة إنسانية في حلب لثماني ساعات، يوم غد الخميس، إذ إن موسكو لم تدخل أي مساعدات، خلال أسبوع كامل، بعد اتفاق وقف إطلاق النار في 18 سبتمبر/أيلول الماضي، بل عمدت بدل ذلك، إلى قصف قوافل الإغاثة التابعة للأمم المتحدة.
وقال لافروف، أمس الثلاثاء، إنّ “تعليق طلعات الطيران الروسي والسوري لإبداء حسن النية، دعماً للفصل بين المعارضة في حلب وجبهة فتح الشام”، مبيّناً أن “على المسلحين الذين سيبقون في حلب بعد خروج (النصرة) التوقيع على اتفاق الهدنة”. وأضاف “إذا نجح هذا الأمر وغادر المسلحون المدينة سيتم تمديد الهدنة”. وكشف الوزير الروسي أنّه اتفق مع وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، على “استئناف عمل الخبراء العسكريين في جنيف من أجل إخراج (النصرة) من حلب”.
وسبق حديث لافروف، إعلان شويغو توقف القوات الجوية الروسية والسورية عن شنّ غارات على حلب، اعتباراً من الساعة العاشرة صباح أمس الثلاثاء، بالتوقيت المحلي في سورية، تمهيداً لتطبيق “الهدنة الإنسانية”، الخميس المقبل. وعلّل الإعلان المبكر لوقف الغارات الجوية بأنه “ضروري لتطبيق الهدنة الإنسانية بعد يومين، وسيتيح ذلك ضماناً آمناً لخروج السكان المدنيين عبر ستة ممرات والتمهيد لإجلاء المرضى والجرحى من شرق حلب”. وأوضح أنّ قوات النظام السوري ستبتعد عن حلب قبيل بدء “الهدنة الإنسانية” حتى يتمكّن المسلحون من المغادرة عبر ممرين خاصين هما طريق الكاستيلو شمال حلب وسوق الهال في وسط المدينة، داعياً “قادة الدول التي لها تأثير على الفصائل المسلحة، إلى إقناعهم بوقف المقاومة ومغادرة المدينة”. وقال إنه يمكن لوقف الغارات الجوية أن يساعد في نجاح محادثات تتمحور حول “الفصل بين المعارضة المعتدلة والإرهابيين في حلب” التي يفترض أن تبدأ في جنيف اليوم.
وعن الخدعة الروسية عبر المطالبة بانسحاب “فتح الشام” من مدينة حلب، قال الزعبي إنه “لا يمكن تفريغ حلب، ولا يمكن إخراج فتح الشام، لأن الجزء الأكبر منهم من أهالي حلب، وبالتالي لن يتركوا أهلهم وأقرباءهم وأبناءهم، الذين يدافعون عنهم. ثانياً هذه سياسة كذب وخديعة من النظام وروسيا لأنه سيتم بعد ذلك المطالبة بإخراج أحرار الشام وفيلق الشام وغيرهما”، مضيفاً “أي مقاتل يخرج من حلب يعطي فرصة ذهبية للنظام للتغلب على حلب، كما حصل في الراموسة عند خروج قسم من الثوار إلى شمال شرق حلب عاد النظام واحتل أجزاء منها”. وعاد الزعبي ليؤكد أن “كل الأخبار التي تتعلق بفتح الشام هي خدعة روسية ومن النظام لأن نتائجها جيدة لهم، ويكفي القول إنهم سوريون، لماذا لا يتحدثون عن إخراج داعش، ولماذا لا يتحدثون عن جماعات العراق ولبنان وإيران؟ لكن مع الأسف نحن من كنا نساعد على إظهار هذا الجانب وغفلنا عن الحقيقة وخاصة الإعلام”.
ويمكن القول، إن حديث الروس عن هدنة إنسانية وحسن نية هو أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة، إذ إنه سبق العرضين الأخيرين، أعنف حملة عسكرية على حلب، منذ بيان وقف الأعمال العدائية في 19 سبتمبر، حتى تجاوزت حصيلة الضحايا الخمسمائة قتيل، ومئات الجرحى. وتؤكد الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن “قوات النظام وموسكو صعدتا من وتيرة القصف العشوائي، في أحياء حلب الشرقية”، مشيرة إلى أنها ترقى إلى جرائم حرب. وتقول الشبكة إن “القوات الحكومية وروسيا شنّتا مئات الغارات، استخدمت فيها القوات الحكومية ما لا يقلّ عن 214 صاروخاً، بينما تم توثيق ما لا يقل عن856 صاروخاً تم استخدامها من قبل قوات نعتقد أنها روسية”، مبيّنة أن “معظم عمليات القصف كانت عشوائية وسط تلك الأحياء، وليست على خطوط الجبهات، ويهدف ذلك إلى حمل فصائل المعارضة على الاستسلام عبر قتل أكبر قدر ممكن من أهلهم من أجل الضغط عليهم”.
ووثقت الشبكة الحقوقية منذ انتهاء مدة بيان وقف الأعمال العدائية في 19 سبتمبر وحتى 14 أكتوبر/تشرين الأول الحالي مقتل 361 مدنياً، بينهم 69 طفلاً، و55 سيدة، حيث قتلت القوات الروسية وحدها 247 مدنياً بينهم 82 طفلاً، وارتكبت 13 مجزرة، في حين شهدت الأيام الماضية، تواصلاً للقصف الدموي على المدينة، حيث سقط يوم الإثنين وحده أكثر من 50 قتيلاً مدنياً، لتتجاوز الحصيلة الخمسمائة قتيل خلال الأسابيع الثلاثة الماضية في الأحياء الشرقية التي تسيطر عليها المعارضة في مدينة حلب.
في ذات السياق، يمكن قراءة ما ورد على لسان وزارة الدفاع الروسية عن هدنة إنسانية في حلب، يوم غد الخميس، مؤكدة أن “الطيران الروسي والسوري سيعلقان الضربات من الساعة الثامنة صباحاً حتى الساعة الرابعة مساء لمرور المدنيين بحرية، ولإجلاء المرضى والمصابين، ولخروج المسلحين”، مع أن موسكو لم تسهل إدخال المساعدات الإنسانية بعد بيان وقف الأعمال العدائية والتي شهدت هدوءاً نسبياً عكرته الخروقات الروسية المتكررة، لتقوم بعد ذلك بقصف قافلة الأمم المتحدة، وتعلن الأخيرة تعليق نشاطاتها. وأعلنت الأمم المتحدة أن خطة روسيا لوقف إطلاق النار لن تعني تقديم أي إمدادات لمنطقة شرق حلب المحاصرة، لأن روسيا والنظام السوري وجماعات أخرى تقاتل في المدينة لم تقدم بعد ضمانات لسلامة عمال الإغاثة. وقال المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية ينس لايركه “نحتاج لضمانات من كل أطراف الصراع وليس مجرد إعلان أحادي الجانب بأن ذلك سيتم. نطلب من الجميع منحنا تلك التطمينات قبل أن نبدأ في اتخاذ أي إجراء له معنى”.
العربي الجديد – أنس الكردي