كانت هذه الكلمة، التي تردّدت على لسان صديقتي السورية بعد أن قررت أن تجرِّب رحلة اللجوء إلى أوروبا، «خارطية»، هذه العبارة تعني للاجئين السوريين ورقة، تسمح لهم بالتنقل بين دول أوروبا بعد أن أصبحت فكرة اللجوء إجبارية، وصارت خياراً لا اختياراً لشعب مُتْعَب، هاجر بأغلبه بعد أن أجبرته الظروف على النزوح والهروب لكي «ينفذ بجلده» من ويلات الحرب، والقتل، وسفك الدماء. وبعد هذا النفق المظلم من تدهور الأوضاع في كل لحظة في سوريا، ظهر في الأفق هذا الحلم، الذي كان اسمه «أوروبا»، وجنات النعيم لشعب صار يرى في الموت طريقاً للنجاة من الألم، وسبيلاً للخلاص، فتجربة موت اللاجئين أثناء الرحلات البحرية لم تكن مقطعاً مفزعاً، ومثيراً في فيلم سينمائي من «درجة الأكشن»، نتابعه، ثم نطفئ الإضاءة في منازلنا، ونخلد إلى النوم، ولكنها «أي التجربة» واقعٌ متكررٌ، يعيشونه، وهم يهربون من الموت إلى الموت، يلاحقون بصيص أمل في النجاة، ولمس «نجمة» أوروبا البعيدة.
قالت صديقتي: إن حلم أوروبا لم يقتصر على اللاجئين السوريين، وإنما حفلت رحلة اللجوء بعديد من أبناء الجنسيات الأخرى، فأوروبا هي الحلم المستحيل، والجنة الموعودة. وأنها عندما قررت أن تهرب خلسة كغيرها عبر منطقة أزمير في تركيا، عاشت لحظات عصيبة بدءاً بالركوب في القارب المطاطي، الذي يسمُّونه «بلم»، ويستقله الركاب بعد أن يدفعوا «ثمن رؤوسهم»، ثم يخرجوا إلى البحر وهم عُزَّل إلا من أحلامهم وأمانيهم في رحلة، يعتقد بعضهم أنها وردية، وأن طريق البحر مفروش بـ «أسماك ملونة وطيبة»، قد تناقش مجلس الأمن، وتعلن «فيتو»، تعترض فيه على ما يجري من تهجير، أو أن تكون رحيمة بما يكفي، فتمنع نفسها من افتراس هذه الأجساد المبتلة بالملح.
قالت لي إنها انتابها خلال الرحلة شعور غريب، يخرجها من شعورها بإنسانيتها إلى شعورها بأنها رأس يتحرك بين رؤوس القطيع، الذي يتنقل من غرق إلى غرق، ومن قطار إلى قطار، ومن «باص» إلى «باص»، ومن خيمة إلى أخرى، ومن فناء مهجور إلى فناء آخر مهجور. أحسَّت أنها تحولت إلى رقم، وأنها نسيت اسمها، ونسيت أسماء أبنائها، الذين يشاركونها رحلة الموت في عبور اثنتي عشرة دولة للوصول إلى السويد، فقد كانت كل الطرق تحمل آثار خطوات اللاجئين، وكانت الأمتعة، وأردية الإنقاذ البرتقالية تضيء جبال جزر اليونان، التي تعد أولى محطات العبور، في كل خطوة فيها تقرأ حكايات التخلي والوجع، وفي كل مكان تعرف أن اللاجئين تخلوا عن أبسط الأشياء«أمتعتهم، وطعامهم» وفي كل طريق «متعب» تجد بقايا خطواتهم المنهكة، وحقائبهم إلى أن ينتهي الطريق، حينها يكتشفون أنهم تخلوا حتى عن حقهم في الحياة في سبيل رحلة هروب مستحيلة للوصول إلى أعلى قمة للتخلي ليكتشفوا في نهاية المطاف أنهم مضطرون لتصديق ذلك الوهم الكبير «المتلاشي» بحياة أكثر عدالة وإنسانية.
صحيفة الشرق