يأتي كتاب «حوادث دمشق اليومية» لأحمد البديري الحلاق كاشفاً عن فترة مجهولة في تاريخ دمشق، وهو ما يقترب كثيراً من التدوين الشفاهي لتلك الفترة، فلم يخرج عن مؤسسة وسجلات رسمية، بل مُشاهدات تفاعل وتأثر بها صاحب الكتاب، الذي جاء من خلال يوميات حلاق هو بالأساس رجل دين، ومنتسب لأحد الطرق الصوفية، كاشفاً بطريقة غير مباشرة عن كثير من جوانب الحياة في منتصف القرن الثامن عشر من 1740 حتى 1761، في لغة فصحى فيها الكثير من المفردات العامية والمصطلحات التركية، وهي تزخر بالإضافة إلى أخبار الولاة الذين تناوبوا على دمشق في تلك الفترة، وهم أسعد باشا العظم وأخواه، أخبار الجنايات اليومية، كقتل فلان فلاناً، وهجمت العشيرة الفلانية على المنطقة العلانية.
ما مصير العقارات التي تم شراؤها في الشمال السوري دون وجود أوراقٍ ثبوتيّةٍ رسميّة
النسخة التي وقعت عليها من الكتاب جاءت بتنقيح المؤرخ المصري أحمد عزت عبد الكريم ــ كان مدرساً في جامعة دمشق ــ وقد قام في المقدمة بتلخيص الكتاب وتصويب بعض النقاط فيه، وهو يلوم محمد سعيد القاسمي أول من اكتشف هذا الكتاب وقدمه للقارئ العربي في نهاية القرن التاسع عشر، يلومه لأنه حذف الأدعية التي كان البديري يذكرها في كتابه، لأنه قد يكون في تلك الأدعية ما يكشف لنا مزيداً عن البديري وعن الشام في تلك المرحلة التي لا نعرف عنها الكثير. نلحظ في المقدمة الطويلة أن عبد الكريم قام بإجمال الكتاب، كما أنه أورد في الهوامش الكثير من التفاصيل والتوضيحات المهمة للمهتمين بتلك المرحلة من تاريخ الشام.
العسكر في دمشق
يفصّل الكتاب بطريقة غير مباشرة أنواع العسكر الذين كانوا موجودين في دمشق، صحيح أنه غير واضح تماماً، ولكنك تعرف أن هناك (القابي قول) وهم جند الانكشارية التابعين مباشرة للباب العالي، وهؤلاء لا يتواجدون إلا في المدن المهمة وتوكل إليهم مهمات القضاء على الثورات التي كانت تندلع ضد الدولة العثمانية، فرغم أهمية ولاية حلب التي تعد ثالث أهم مدينة في السلطنة العثمانية بعد إسطنبول والقاهرة إلا أنه لم يكن فيها عسكر( قابي قول) ربما لأن دمشق كانت عاصمة إقليم بلاد الشام، الذي كانت فيه عدة ولايات على رأسها حلب وطرابلس وصيدا وعكا. وكان والي الشام ينصب كوزير للحج، وهذه من أهم المناصب التي كانت الدولة العثمانية توليها لمسؤوليها.
الصنف الثاني من العسكر: «اليرلية» وهم الجنود المحليون الذين يتبعون للوالي، وفي كثير من الأحيان كانت تندلع الاشتباكات بين هؤلاء في ما بينهم، أو بينهم وبين القابي قول، ويسقط قتلى منهم ومن المدنيين، الذين لا ناقة لهم ولا جمل، ورد في الكتاب الجملة التالية التي تصف الواقع «واشتغل ضرب الرصاص».
يذكر الكتاب بعضاً من حياة أسعد باشا العظم، الذي كان أقوى الولاة العثمانيين ووزير الحج، وقد استطاع أن يخمد العديد من الثورات ضد الدولة العثمانية، إلا أنه تم عزله ثم نقله إلى غير ولاية، ثم اتهم بأنه يدفع للبدو كي يهجموا على مواكب الحج، فتم قتله ومصادرة أملاكه التي كانت كثيرة جداً. طبعاً أسعد باشا كان من أهم الولاة وأهم وزراء الحج، حيث استطاع خلال عهده تأمين هذا الطريق تماماً من هجمات البدو، الذين يصفهم الكاتب بالعرب، وكل كلامه عن الهجمات على مواكب الحجيج يقوم بها «العرب»!
المصاري
رطل خبز وغرارة قمح وأوقية لحم.. هذه بعض المفردات التي كان فيها عن الأسعار، وهو يشكو دائماً من غلائها وأن «المصرية» فقدت بعض قيمتها. والمصرية هي العملة العثمانية المصكوكة في مصر، وهي في سوريا منذ عام 1740 ما يعني أن المعلومة التي تقول إن كلمة «المصاري» دخلت مع دخول جيش محمد علي إلى سوريا عام 1830 ليست دقيقة تماماً، فهذه العملة «المصاري» موجودة قبل دخول جيش محمد علي بزمن طويل.
أبو قميص
ما استوقفني من القصص الكثيرة التي ذكرها الكاتب أن أحد المتصوفة والزاهدين كان اسمه «أبو قميص» لأن لديه قميصين فقط يغسل أحدهما ويلبس الآخر، وعندما مات خرجت الشام كلها في جنازته، ولكن عندما عادوا إلى منزله وجدوا الكثير من الذهب والأموال والمؤنة!
الزرباوات هم الزعران بلغة يومنا الحاضر، ويبدو أن هذه الكلمة التي تكررت كثيراً في ثنايا الكتاب قد انقرضت، فيما وردت الكثير من الرتب العسكرية التي نسمعها إلى اليوم كأسماء لعائلات سورية، كالبيرقدار والدالاتي والجوخدار وغيرهم.
نقلا عن القدس العربي