حظيت حكومة مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء العراقي الجديد، بموافقة عليها من قبل الخصمين اللدودين: أمريكا وإيران، وفاض كرم واشنطن بتعهد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، بتجديد إعفاء بغداد من الحظر على استيراد الطاقة الإيرانية لمدة 120 يوما، وسارعت دول غربية أخرى كبريطانيا وكندا إلى الالتزام بالموقف الأمريكي في هذه الموافقة، أما إيران فباركت، عبر وزير خارجيتها محمد جواد ظريف، وسفيرها في بغداد، إيرج مسجدي، للكاظمي والبرلمان تشكيل الحكومة الجديد.
حظيت الحكومة الجديدة أيضا بتهنئات سريعة إقليمية وعربية، وكذلك حصلت على ترحيب من قبل الأمم المتحدة، وكان الأصعب بالتأكيد، بعد حصول الكاظمي على موافقة مبدئية من الكتلتين السنّية والكردية، هو جمع رأي المكوّنات الشيعية، التي تملك أحزابها وتحالفاتها، الأغلبية في البرلمان، وكذلك القوّة العسكرية على الأرض متمثلة في ميليشيات «الحشد الشعبي» الكثيرة.
يوضّح نجاح الكاظمي في الحصول على الموافقة البرلمانية مجددا أن المعادلة الوازنة في تشكيل الحكومات في العراق هو موافقة إيران عليها، بالدرجة الأولى، ثم موافقة الولايات المتحدة الأمريكية، بالدرجة الثانية، ورغم أن موافقة البرلمان العراقي شأن مهمّ لموازنة وتصريف شؤون القوى الفاعلة الكبرى في الساحة العراقية، وان المصالح والصراعات والأمزجة تلعب فيه أدوارا محسوسة، لكنّ الاتفاق الإيراني ـ الأمريكي، هو الأمر الحاسم الذي يفتح الطريق لاتفاق البرلمانيين، وبعدها لاتفاق الإقليم والعالم.
«الاتفاق» الإيراني ـ الأمريكي لا يعني أن الصراع بين الطرفين سيتوقّف طبعا، وقد عبّر «حزب الله» العراقي عن هذا الأمر صراحة، بتهديده المباشر للكاظمي، كما يعبّر عنه استمرار الضغط الأمريكي على طهران، وكان آخر تعابيره استخدام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لحقه الرئاسيّ بنقض تشريع صادر عن مجلس النواب الأمريكي يحدّ من قدرته على إشعال حرب ضد إيران.
أثّرت في ولادة الحكومة العراقية ثلاثة عوامل كبيرة كان أولها اغتيال الولايات المتحدة الأمريكية لقاسم سليماني، القائد العملياتي الإيراني الأكبر نفوذا في المنطقة، وثانيها قيام الانتفاضة الشعبية العراقية ضد النظام القائم، وثالثها انتشار وباء كورونا، الذي أضعف قدرات إيران الاقتصادية والسياسية، من ناحية، ووجّه ضربة كبرى لاقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي لسياسات الرئيس الأمريكي نفسه.
أدّى اغتيال سليماني إلى موجة من الارتدادات العاصفة ضمن العراق وفي مياه الخليج، وكانت هذه الارتدادات من الحدة بحيث دفعت طهران وواشنطن إلى شفا الحرب، وساهمت الانتفاضة العراقية في تغيير التوازنات مجددا وأدت إلى أزمة سياسية مديدة دفعت حكومة عادل عبد المهدي إلى الاستقالة، ثم جاءت جائحة كورونا لتعيد خلخلة التوازنات مجددا وصار لزاما على الأعداء المثخنين بالأزمات أن يتفقوا، وكانت النتيجة طبعا هي نجاح الكاظمي، بعد محاولتين فاشلتين سابقتين، في تشكيل الحكومة العتيدة، التي سيكون أكبر ما يمكن أن تنجزه، رغم وعودها الكبيرة للجميع، هو أن تحافظ على هذه «الهدنة» المحفوفة بالمخاطر.
تعيد حكومة الكاظمي إذن تذكيرنا بأن السياسة ليست إلا امتدادا للحروب بأشكال أخرى وسيكون صمودها نوعا من ميزان الحرارة لجسد الاتفاق الإيراني ـ الأمريكي، في وقت يعاني فيه العالم بأجمعه من المرض.
نقلا عن: القدس العربي