بُعيد هجمات مطار بروكسيل الإرهابية في آذار (مارس) الماضي، شاهد العالم كيف استخدمت الشرطة البلجيكية خراطيم المياه لتفريق صدامات في بروكسيل بين متظاهرين غاضبين لوقوع الهجمات وآخرين مناهضين لهم، نسبة كبيرة منهم من المهاجرين المسلمين الذين يرفضون استغلالها. كانت تلك المرة الأولى التي تضطر فيها الشرطة في دولة أوروبية إلى لعب دور «الوسيط» في لحظة احتراب داخلي. فقد جرت العادة أن تكون مشكلة المهاجرين أو ذوي الأصول الأجنبية مع أجهزة الدولة لا مع بقية مكونات المجتمع.
ثم ما لبث أن تكرر المشهد نفسه في غير مكان. ففي آب (أغسطس)، اندلعت مواجهات عنيفة في بلدة سيسكو بجزيرة كورسيكا الفرنسية بين الأهالي «الأصليين» وشركائهم في الوطن، وهم مهاجرون من شمال أفريقيا، بسبب التقاط صورة لإمرأة مسلمة على شاطئ، ما دفع الشرطة الفرنسية إلى ضخ ألف عنصر إضافي بينما تحولت الشوارع إلى ساحات حرب. كما فضت الشرطة الفرنسية في حادثة منفصلة اشتباكاً عنيفاً داخل محطة في مترو باريس وقع بين عددٍ من المهاجرين الأفارقة ومواطنين فرنسيين نصبوا أنفسهم حراساً للمحطة رفضاً لتواجدهم. وبالتوازي، كانت أحداث غير مسبوقة تقع في فنلندا.
ففي بلدة صغيرة تدعى فورسا، تسلح أكثر من مئة شاب من سكان البلدة ومن المهاجرين بعصيٍ وأنابيب حديد واشتبكوا مع بعضهم البعض إثر ما قيل إنه اعتداء لاجئين على مراهق فنلندي. ومرة أخرى، وجدت الشرطة نفسها تقوم بواجب «المخلص». وإلى الجنوب، لم يجد سكان بلدة هولندية بديلاً عن مهاجمة مبنى البلدية احتجاجاً على إسكان أربعة شبان لاجئين حاصلين على حق اللجوء والإقامة، ما اضطر الشرطة إلى التدخل من أجل ضبط النظام العام. وإن أُضيف مسلسل حرق آلاف السيارات وحالات التحرش الجنسي من قبل المهاجرين في السويد والدنمارك والارتفاع الملحوظ لطلبات المواطنين الراغبين في الحصول على تراخيص الأسلحة في ألمانيا والنمسا وتشيخيا، بدت الصورة أشد سوداوية من أي وقتٍ مضى.
ليس الحديث هنا عن اتساع رقعة اليمين المتطرف أو الصدامات بين أنصاره ومعارضيه أو المشكلات بين الوافدين الجدد والسلطات. بل تتعلق الأمثلة بتنامي ظاهرة الاقتتال المجتمعي بين المواطنين «الأصلاء» والمهاجرين الذين يحمل الكثيرون منهم جنسية البلدان التي يعيشون فيها أو أنهم حاصلون على الإقامة على أقل تقدير. والواضح أن المجتمعات الأوروبية تتجه بثباتٍ نحو معادلة «سكان حقيقيين» و «أجانب دخلاء»، فيما يتسع الشرخ وتتعمق الهوة ويرتفع الشك بين الطرفين في شكلٍ متسارع. ولعل تحوّل «الأصليين» نحو أخذ زمام المبادرة بأيديهم وتجاوزهم أجهزة إنفاذ القانون عبر تكوين مجموعات دفاع ذاتي، ليست لها خلفية يمينية شعبوية بالضرورة، واقتناعهم أكثر فأكثر بفكرة أن ذوي الأصول الأجنبية وراء انفلات الأمن وتزعزع النظام وانهيار الاقتصادات، مؤشر بالغ الخطورة على مسار الأحداث في القارة الأوروبية في المستقبل ونمط العلاقات بين أفراد المجتمع.
والمواطنون من أصل أجنبي أو المقيمون يتمترسون، بدورهم، في ضواحيهم وغيتوهاتهم وقد بدأوا فعلياً دراسة تشكيل ميليشيات حماية أهلية تحسباً للمعركة المقبلة ضد شركائهم المفترضين في البلاد، بينما يكثر الحديث في أوساطهم عن رفضهم التحول إلى «كبش فداء» أو «الوقوف مكتوفي الأيدي» جراء تزايد نزعة تحميلهم مسؤولية الهزات التي تعاني منها البلدان الأوروبية. وقد لا تكون الأحداث التي حصلت حتى الآن سوى رأس جبل الجليد. وسيناريو حرب الشوارع أو حرب العصابات يمكن أن يرى النور في المستقبل، ولربما يتوسع في حال أصبح الأوروبيون اليساريون طرفاً ثالثاً وشكلوا بدورهم مجموعات شبابية فوضوية متشددة. وقد تشهد أوروبا في مقبل السنين واقعاً جديداً يتمثل بسيطرة المجموعات المسلحة واضمحلال دور الدولة في ما يشبه حرباً أهلية، بخاصة أن قوانين الطوارئ لم تمنع حصول عمليات إرهابية، في ظل فشل أمني رسمي في توقع أو مكافحة الظاهرة الميليشيوية الشوارعية بشقيها.
ويأتي كل ذلك وسط انعدام ثقة الجميع بالأجهزة الحكومية والسلطات والإلقاء باللوم عليها في ما وصلت إليه الأوضاع. وهو اتهام يحمل جزءاً من الصحة مع التخبط والعشوائية في اتخاذ القرارات وغياب التخطيط والاستراتيجية في رسم السياسات. وعليه، تبدو المؤسسات الأوروبية والحكومات الوطنية على حدٍ سواء في سباقٍ مع الزمن من أجل قلب المعادلة، مع ارتفاع منسوب النَفَس القومي الانعزالي في الغرب ككل. إنها أسباب موجبة للقلق!
الحياة – رؤوف بكر