يشير الكثيرون من الكتّاب والمحللين الروس إلى تهلهل قوات الأسد وعدم قدرتها على استعادة زمام السيطرة، وهذه الشهادات «الحليفة للنظام» قد تكون أهم مما تؤكده المعارضة عن تركز معركتها ضد الميليشيات الإيرانية المدعومة بالطيران الروسي. ربما يكون هذا الواقع، من بين عوامل خارجية أخرى، قد دفع بمجلس الدوما إلى إقرار وجود عسكري دائم في سورية، ودفع بوزارة الدفاع إلى منح وجودها البحري القديم، صفة القاعدة العسكرية.
هذا الاحتلال الثنائي، فوق نظيرهما الداخلي، سيدفع مقاومتهما لتتخذ شكل حرب تحرير، قد تختلف شروطها الميدانية عما هو معروف الآن. الأهم، أن قاعدتها الفكرية قد تنزاح عن فكرة الثورة، بعد انحسار الأخيرة منذ تغلب الصراع الخارجي على الصراع المحلي. مع الاحتلال، قد يزداد العامل الداخلي انحساراً، على الأقل من جهة الموالين الذين سيكونون شركاء هامشيين في المعركة، ولن يحظوا تالياً بثمار النصر الذي منّوا أنفسهم به، لكن لن يكون لشطر كبير منهم سوى خيار الاحتماء بالمحتل.
بهذا المعنى، يُستبعد في الأمد المنظور أن تجمع حرب التحرير ما فرّقته الثورة. هذا لن يمنع صحوة جزء من الموالاة على الثمن الباهظ الذي دُفع لقاء بقاء النظام. فقوى الاحتلال بدأت تتصرف وفق النموذج «المدرسي» لها، أي بالعنجهية التي تميزها دائماً إزاء حلفائها المحليين، بينما تنصرف وحشيتها إلى المقاومين.
الأمر لم يعد يقتصر على استعراضات التشيع هنا وهناك، وهي استعراضات غريبة عن علويي سورية بمقدار ما هي غريبة عن سنييها، بل تعداه إلى محاولة فرض التشيع ضمن الساحل السوري، وهو ما لم ينجح لسنوات خلت قبل الثورة عندما كان مدعوماً بالمال وحده. أخيراً، بعد أشهر قليلة من التدخل الروسي المباشر، بدأ تناقل الروايات عن تجاوزات الجنود الروس خارج قاعدتيهم في طرطوس وجبلة، وهذا مرشح للتفاقم مع جلب حوالى ثلاثة آلاف عسكري روسي إضافي سيخوضون معارك برية، وهؤلاء سيكونون أقل حصانة إزاء الأمراض النفسية والعقد التي تصيب المقاتلين ويجرى تفريغها في معسكر الأعداء والحلفاء.
بناء على ذلك، قد تكون هناك فرصة على المدى البعيد لإيجاد مساحات مشتركة بين جميع السوريين المتأذّين من الاحتلال، مع عدم تعليق آمال مستعجلة على هذا الاحتمال، لأن واحدة من صفات الاحتلال الذي يلي حرباً أهلية قدرتها مستمرة على خلخلة التوافق الأهلي. الرهان على التذمر الذي سيخلقه الاحتلال في بيئة حلفائه المحليين ليس قوياً، وفي المقابل لا ينبغي إهماله لأن العلاقة بين الطرفين مختلفة عن علاقة هذه البيئة العضوية بالنظام، العلاقة التي يصعب بناء شبيه لها في فترة قصيرة إلا من جانب الميليشيات ذاتها التي تدلل على تآكل النظام في لحظة دفاعها عنه.
التحدي الآخر هو في طبيعة الالتباس الذي سيحصل بين ما يُفترض أنها ثورة حرية وحركة التحرر، فليس جديداً عموماً، وفي المنطقة خصوصاً، أن تبتلع قضية التحرر مسألة الحرية، وأن يكون شعارها المفضّل «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». لقد جرب السوريون هذا في السنوات الأربع الأخيرة تحديداً، فتحت لافتة «الصراع الشيعي – السنّي» تمّ تهميش الثورة، وطبقت فصائل إسلامية في مناطق سيطرتها مختلف أصناف الاستبداد وقمع الحريات العامة. لا يكفي لوصف سلوك تلك التنظيمات العودة إلى خلفياتها العقائدية العامة، لأن عامل الشد الطائفي كان الأكثر استثماراً لتبرير التشدد الديني. هنا يأخذ التشدد وظيفة التمايز المطلق عن الآخر، بينما تسري وظيفته الداخلية لإلغاء أي تمايز محتمل ضمن الجماعة.
بالطبع، لا يُستبعد التلطي وراء مقولات تنحية الخلافات الداخلية تحت لافتة معركة التحرير، ما يُضمر الإفساح في المجال لقوى الاستبداد كي تقود وتسيطر على «المعركة» وأهلها. ولا يُستبعد تالياً الترويج لسلّم من الأولويات لا يتضمن قضايا الحريات العامة والشخصية، الأمر الذي يُنذر بتكرار تجربة الانتقال من الاحتلال إلى الاستبداد في أكثر من بلد. إن واحدة من مهازل التاريخ هي بالضبط في وجود قوى احتلال راهنة، بعد الظن بانقضاء عهده نهائياً، وإذا كانت نهاية الاحتلال شبه محتمة، فالعبرة في ألا تؤدي «نموذجياً» إلى تدوير الاستبداد.
لا يملك السوريون خبرة قريبة في التعاطي مع الاحتلال، فالانتداب الفرنسي لا يُقارن بالاحتلالين الروسي والإيراني، والأول هو الذي مهّد لأفضل عهد شهدته سورية، أي عصر الديموقراطية على علاتها وتقطعها. في الواقع، قوة الانتداب هي التي أسّست، أو سمحت بإنشاء، المنجزات الديموقراطية كافة التي انقض عليها حكم البعث. أما الاحتلالان الروسي والإيراني فيكفي النظر إلى مستعمراتهما، أو شبه المستعمرات السابقة، لرؤية ذلك الاشتغال إما على تفتيت الدول بالميليشيات، أو على الانقضاض على أي تطلع ديموقراطي.
لذا، من الأفضل النأي عن الغنائيات التي روجت لها ثقافة النظام البعثي عن النضال ضد الفرنسيين، لأن الترويج ذاته أغفل عمداً مظاهر الحراك الديموقراطي السوري تحت الانتداب، مُبتذِلاً القضية إلى بضع بنادق وثوار تغلبوا على قوة عظمى.
لعل أسوأ ما يمكن أن يكتنف الدعوات إلى إعلان حرب تحرير سورية هو تغليبها الشحن الأيديولوجي، ومحاولة استنهاض عصبية وطنية، من دون اشتغال بالسياسة. ففي هذا تكرار لامتناع عن اشتغال السياسة داخلياً وحصرها بالتفاوض مع الخارج، سواء من جانب النظام أو من المعارضة التي لم تؤسس لتجربة سياسية تلقى الاحترام. السياسة المطلوبة، بمحتواها الأعم، هي الضمانة لتكون حرب التحرير حرباً لتحرير السوريين لا حرباً لتحرير سورية فحسب. هذه الحرب بمقدار ما تحمي اختلافات المنضوين فيها، تكون قادرة على ترسيخ مفهوم جديد للوطنية، وقادرة تالياً على اجتذاب مختلفين آخرين.
الحديث عن حرب تحرير يكاد يكون في حد ذاته مغامرة، بعد المصير البائس لمفهوم الوطن والحصيلة الدموية لما سُمّي الحكم الوطني. بالأحرى، لم يعد لفكرة الوطن ذاتها ذاك البريق القديم، ولم تعد أيضاً لفكرة الخلاص الجماعي تلك الأولوية. تقديم نموذج وطني بديل لن يكون يسيراً مطلقاً، إذا افترضنا توافر النيات، بخاصة إذا أريد بناء الجديد بالحجارة القديمة ذاتها.
الحياة – عمر قدور