الحرب خدعة. والمنتصر هو من يستخدم أقل قوة ممكنة لكي يربح الحرب. ولعل أفضل الحروب هي تلك التي يتربح من دون إطلاق رصاصة واحدة. وأفضل طريقة لهزيمة الخصم هي استخدام زخمه وكتلته البشرية ضده كما يحدث عندما يستخدم مصارعو شرق آسيا حركة الخصم من خلال إعادة توجيهها لهزيمته.
هذه حكم يدرسونها منذ سنوات طويلة في الأكاديميات العسكرية. اليوم صارت تكتسب بعداً آخر بعد دخول التقنيات الحديث كأداة لإعادة توجيه الكتل البشرية واندفاعة الخصم لهزيمته. المغول كانوا يرعبون الخصم عن طريق الإشاعات والفتن التي تسبق تقدم جيوشهم. الجيوش الحديثة صارت تشن الهجمات عبر المحطات الفضائية التلفزيونية والإنترنت، ومؤخراً عن طريق المواجهة عبر الشبكات الاجتماعية.
حروب الجيل الرابع تهدف إلى تفكيك الشعب وزعزعة الدول واستقرارها وتدمير القطاع المدني فيها وتفتيت مؤسسات الدولة أمنياً واقتصادياً وتفكيك وحدة شعبها حتى قبل استهداف الجيش فيها. الهزيمة تتم عبر تسخير إرادات الغير في تنفيذ مخططات العدو. تقنيات الجيل الرابع من الحروب تستهدف النظام الفكري للشعب عن طريق خلق أنظمة ذهنية داخلية متناحرة على جميع المستويات. تأخذ هذه الأنظمة الذهنية المتناحرة طابع حرب الجماعات الدينية أو حرب الجماعات المالية والاقتصادية، كما من الممكن أن تأخذ طابع حرب الجماعات العلمية المسوقة للتكنولوجيا، هذه الجماعات المتناحرة تخترق الفراغات الهائلة للتقنيات الحديثة وتحدث خسائر فادحة في الدول والمجتمعات.
إنها البلبلة التي تعتبر من أشكال التمرد المتطورة، وفيها تُستغل كل الشبكات المتاحة – من سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية – لإقناع صانعي قرار العدو، بأن أهدافهم الاستراتيجية مستحيلة التحقيق، أو أنها مكلفة للغاية. ولا يُستهدف منها بالأساس الفوز عبر هزيمة القوات المسلحة للعدو، ولكن مهاجمة عقول صناع القرار وتحطيم الإرادة السياسية.
إن حروب الجيل الرابع تعتمد أيضاً على تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والتي تعد من العناصر الرئيسية بدأتها بما يسمى بـ”الإعلام الجديد” مثل المدونات ثم الصفحات وشبكات التواصل الاجتماعي ك”فيسبوك” و”تويتر” لاستغلالها في إطلاق الشائعات وحشو الأخبار بكل مضلل كاذب لإفقاد الوعي والهوية والانتماء، وتتم بوساطة مجندين وجواسيس لتتمكن في النهاية من تكوين مجموعات لإثارة الفتن والمشاكل والصراعات الداخلية لتفتيت الدولة وإضعافها وتفكيك مؤسساتها. ومن المهم مواجهة هذا النوع من الحروب بالتكاتف والتلاحم بين الشعب ومؤسساته وعدم الانسياق وراء الشائعات وضرورة التحقق من الأخبار المنشورة ومعرفة مصدرها الصحيح لضمان عدم الانسياق وراءها وترديدها عن جهل، والتي تتسبب في إضعاف المجتمع وفقدان وخلق الفرقة بين مكوناته. الدول المتماسكة يصعب اختراقها بالفتن.
نعرض بعض الأمثلة من واقع الأحداث في منطقة الشرق الأوسط: في أحداث انتفاضة 2009 في إيران كان أهم محرك ثوري هو الإعلام الجماهيري المتمثل في تطبيق “تويتر”، فكانت بيانات الحشد توزع من خلاله، وكذلك أصبح “تويتر” وكالة أنباء حية تنقل الأنباء من داخل الحدث بالصوت والصورة من خلال مراسلين تم اختيارهم بوساطة مخططي حرب الجيل الرابع المتقدمة.
وفي أحداث ثورة 25 يناير المصرية كانت الوسيلة الإعلامية “فيسبوك” من خلال بعض الصفحات الشبابية، وتم حشد الشباب من خلال رسائل موجهة بدقة من بعض الناشطين المدربين على أيدي مخططي حرب الجيل الرابع المتقدمة، وقد انتشرت البيانات والمنشورات بشكل كبير على “فيسبوك” في تركيز زمني معد مسبقاً، والدليل أن بعد أحداث 25 يناير لم يستطع “فيسبوك” تحريك الزخم الثوري أو التأثير عليه، مما يوحي أن الحملة التي سبقت الثورة كانت مخططاً لها لإشعال فتيل الثورة العفوية حتى لا يتدخل المخطط في تفاصيل ما بعد الحدث في هذه المعركة بالذات لأسباب استراتيجية تم التحضير لها مع قوى معارضة لها تأثير على الشارع المصري.
أما أحداث الثورة السورية، فقد تجلى دور الإعلام بقوة، وأصبح هو الرابط بين الثوار وبين المدن والقرى، وأصبح هو السبب في الاحتشاد، وهناك شخصيات شبابية تدير الثورة السورية من خلف ستار الإعلام الجماهيري “فيسبوك”، ويقوم هؤلاء الشباب برصد الأحداث وحساب الخسائر في الأرواح والممتلكات في كل المدن السورية، وتحديد اسم كل جمعة تمر على الثورة السورية، وتحشيد الجماهير، وإعطاء معلومات ميدانية عن المعارك الدائرة بين الثوار والنظام السوري.
إنّ اتساع مجالات الحروب لتشمل المجالات المادية والمعلوماتية والإدراكية والاجتماعية تعني أنّ الصراع لم يعد مقصوراً على القوات المسلحة النظامية، بل يمتد ليشمل الأبعاد الإنسانية كافة، ما يجعله حاضراً في كل مجال. وأخيراً، من الصحيح أنّ حروب الجيل الرابع تتسم بالشمولية، حيث تستهدف الدولة والمجتمع معاً، ولكن مواجهتها ليست مستحيلة.
الاتحاد