المعارك الأخيرة التي توجت بكسر الحصار المفروض على حلب، وتحرير مواقع وأحياء عديدة كانت خاضعة فيها للنظام، والاحتفاء الكبير الذي لاقته، والنتائج التي أدى إليها، وفي مقدمها التحالف الذي يبدو وثيقاً اليوم بين الفصائل المدنية والفصائل الإسلامية، ليست معارك عادية. إنها تشكل منعطفاً مهماً في تاريخ الصراع المرير والمتعدّد الأطراف على الأرض السورية.
ليس لما أسفرت عنه من ولادة قوة عسكرية موحدة ومنضبطة، وقادرة على خوض عمليات محكمة في صف الثورة والمعارضة، وسوف تزداد قوةً مع تقدم الانتصارات والمكاسب على الأرض، وهو ما افتقدته الثورة السورية سابقاً، وإنما لأنها حسمت، أو في طريقها إلى أن تحسم نزاعاً على القيادة، ما يزال مستمرا منذ سنوات. وهذا سبب إضافي، لكي لا يقبل نظام الأسد التوازن الجديد، وأن لا يسجل المجتمع الدولي التقدّم الذي أحرزه الثوار السوريون في الخانة الصحيحة.
وبدل أن يفتح التغيير الحاصل في موازين القوى طريق المفاوضات المسدود، سوف يفاقم من مأزق السلام. فعلى الأغلب، وإذا قسنا الأمور بسوابقها، لن يتعلم الأسد، وحلفاؤه الإيرانيون بشكل خاص، أي درس إيجابي ومفيد من النكسة التي شهدوها، ولن يقبلوا التفاوض على أساسٍ جديد، وسوف يصرّون على الحسم العسكري لتكريس وجودهم في سورية، وهو ما لا يمكن ضمانه بغير انتصار الأسد ونظامه.
في هذه الحالة، بدل أن تكون معركة تحرير حلب خطوةً نحو إنهاء الحرب، ربما ستدفع إلى تأجيجها بشكل أكبر، وتكون تمهيداً لمرحلة جديدة من الصراع، تتجاوز، في دمويتها، المراحل السابقة، وذلك بمقدار ما حطم انتصار الفصائل المقاتلة حلم الحلف الثلاثي، طهران وموسكو وطرطوس، في تحويل معركة حلب إلى معركة تصفية قوى المعارضة، وأنعش، في الوقت نفسه، حلم الفصائل التي تعرّضت لنكساتٍ كبيرة سابقة، في اسقاط النظام، وحسم الصراع لصالحها بالطرق العسكرية، أي بمقدار ما تحولت رهانات الحرب إلى رهاناتٍ مصيرية بالنسبة لجميع الأطراف.
في جوهر النزاع بين السوريين
ومن المفيد، في بداية هذه المرحلة التي ستكون قاسيةً على أبناء الشعب السوري والمدنيين الذين يتحملون عبء القتال الرئيسي بشكل خاص، أن لا يغيب عن ذهن المنتصرين هنا وهناك، وفي هذه اللحظة أو تلك، جوهر الصراع، حتى لا تذهب سورية ضحية تنامي مشاعر الكراهية والحقد والانتقام، ونغلق على أنفسنا، من دون أن ندري آفاق الحل السياسي الذي لا نهاية للحرب من دونه، إذا أردنا أن تبقى سورية والسوريين، في أي صيغةٍ كانت، على قيد الحياة.
وربما يساعدنا تذكّر جوهر الصراع وأسبابه وأهدافه على كبح جماح الغرق في الحرب الطائفية التي يزداد منسوب الاندفاع نحوها بمقدار ما يشتدّ الصراع، ونفقد السيطرة عليه، وتتراجع، بل تنسحق في سياقه القوى المعتدلة على الضفتين، لتبرز إلى المقدمة القوى الراديكالية التي لا تعبأ كثيراً بتعاظم الرهان على التعبئة المذهبية والعصبوية، ويزيد دور القوى والمراهنات الأجنبية التي لا يهمها مصير سورية، بمقدار ما يعنيها توظيف حربها لتحقيق مآرب وأهداف خاصة بها.
ينبغي أن نتذكّر دائما ولا يغيب عن أذهاننا أن الحرب اندلعت، منذ البداية، ردّاً من النظام على مطالبة الشعب بالتغيير والاصلاح، وأنها كانت التعبير عن تصميم النظام الذي أوصل البلاد إلى طريقٍ مسدودة، على رفض التجاوب بأي شكل مع مطالب أغلبية من السوريين، والبحث معهم عن مخرجٍ في صيغة جديدة للحكم، تضمن للجميع ما أصبح معياراً عالمياً وإنسانياً للعدالة في عصرنا، وهو المساواة في الحقوق والواجبات، وفي الوصول إلى مواقع السلطة والنفوذ والموارد بين جميع السوريين، وإنهاء عهد المحسوبية واحتكار النفوذ والسلطة والثروة والجاه لصالح فئةٍ صغيرةٍ من الذئاب الكاسرة، تماهت مع الدولة، واستخدمتها درعاً تحتمي به، وأداة لقهر الشعب وتمزيقه فرقا وشيعاً، وبث الرعب في قلوب أبنائه، حتى يقبل الخضوع والإذعان.
وينبغي أن نتذكّر، دائماً، أن ما أوصلنا إلى ما نحن فيه من كارثةٍ إنسانية وبيئية هو الاعتقاد الذي لم يتزعزع عند قادة النظام وأنصارهم أن سورية ملكٌ خال لهم، وأن أي تنازل في أي ميدان سوف يعني بداية انهيار ملكهم. ولا يزال أغلبهم يعتقد أن بإمكانهم سحق الانتفاضة الشعبية، ووأدها تحت آلاف الأطنان من المتفجرات والغازات والقنابل من كل نوع، وترويع السوريين بطوفانٍ لا ينتهي من الصور والأفلام التي يسرّبونها عمدا، لتحريض السوريين بعضهم على بعض، وتشويه صورة الثورة بسيلٍ من الأكاذيب والروايات الملفقة عن الإرهاب والإرهابيين.
وعندما فشلوا، وتحطمت خططهم العسكرية والدعائية على جدران صمود السوريين، طار صوابهم. لكنهم، بدل أن يغيروا سياستهم، زادوا اقتناعا بأنه لا حل إلا بمزيد من العنف والقتل والدمار. وهكذا اكتشفوا فضيلة التدخل الأجنبي وشرعيته، فبعد أن جرّوا بلادهم بأيديهم إلى حرب إبادةٍ ذهب ضحيتها مئات ألوف السوريين، لم يتردّدوا في استقدام عشرات المليشيات الطائفية إلى بلدهم، وفي تسليم مقاليد أمرهم وقيادتهم للجنرالات والمستشارين الايرانيين.
وعندما فشلت طهران في تحقيق مآربهم، التفتوا إلى روسيا التي اعتقدت أن الحرب السورية فرصتها الوحيدة للرد على الصفعات الغربية التي وجهت إليها في العراق وليبيا، ولاستعادة صدقيتها في أوروبا والعالم، وتسهيل فرض الأمر الواقع في أوكرانيا والقرم.
ومن جديد، وجدوا أنفسهم عاجزين عن كسر صمود السوريين. ولم ينجح التحالف الثلاثي الإيراني الروسي الأسدي، على الرغم من كل ما حشده من قوى، واستخدمه من أسلحة، في حسم الصراع. وفاقم حرص الإيرانيين والروس على عدم التفريط باستثماراتهم الكبيرة في الحرب السورية من تمسكهم ببقاء الأسد، واستعدادهم لتسعير الحرب والتصعيد في العنف.
وهكذا، بدل أن تتقدم حظوظ التفاوض مع تفاقم الأزمة وانخراط المجتمع الدولي المتزايد فيها، تراجعت، بشكل أكبر، كل يوم. وباءت الجهود الدولية للبحث عن تسويةٍ سياسية، تضمن، في الوقت نفسه، مصالح السوريين الموالين للنظام، والحد الأدنى من كرامة ومصالح أولئك الذين ثاروا على الظلم والفساد والاستبداد، بفشل ذريع، وهي الآن في سكرات الموت.
ولا يزال بشار الأسد وطغمته وحلفاؤه مصرّين على انتزاع النصر على الشعب بأي ثمن، حتى لو كلف ذلك تدمير مدنه وحضارته وتشريد الملايين منه وإخراجه من دياره. لم يعد لدى هؤلاء أي ذرةٍ من البصيرة والعقل. كما يحصل لرجال العصابة المطاردين، حول هؤلاء البلاد والدولة والشعب إلى رهائن، وهم يهدّدون بقتلهم جميعاً أو الحصول على مبتغاهم، ويؤكدون عزيمتهم وقوة ابتزازهم بقتل مئات السوريين وتدمير شروط حياتهم كل يوم .
خيارات السوريين الصعبة
أمام فشل المجتمع الدولي في القيام بواجباته، ووضع حد للانتهاكات الخطيرة لحقوق السوريين، أفراداً وشعباً معا، وفشل الأمم المتحدة والدول الكبرى في الدفع نحو حل سياسي، وتعطيل نظام الأسد جميع الآليات السياسية والقانونية لفك الحصارات المفروضة على مئات آلاف المدنيين والحفاظ على حياتهم، لم يبق أمام السوريين، وفي مقدمهم فصائل الثورة، خيار سوى عرض الاستسلام، كما طالبهم به، قبل معركة فك الحصار عن حلب، وزير الحرب الروسي، أو استجماع ما بقي لديهم من قوة معنويةٍ وشجاعةٍ وإيمانٍ من أجل خوض حربٍ أصبحت حرب حياة أو موت، لا يمكن أن تتوقف قبل إسقاط الأسد ونظامه.
في سياق هذه الحرب الوجودية التي وضعت السوريين أمام خيار واحد: إما قاتلاً أو مقتولاً، وسدّت كل المنافذ على السياسة والحلول السياسية والتسويات، لم يعد للتيار السياسي والفكري المدني دور كبير، وهو يفقد، بشكل متزايد، القدرة على التأثير والنفوذ. لقد قزم وسحق تحت وقع ضربات العنف الوحشي لنظام الأسد، وهجومات داعش المنسقة معه، وتخلي الدول الديمقراطية التي ادّعت الصداقة مع الشعب السوري، وتردّدها في دعم خيار ديمقراطي جدّي في سورية، وتهافت سياسة النخب العلمانية وتشوشها واضطرابها.
وليس هناك شك في أن معركة فك الحصار عن حلب فتحت طريقاً واسعاً لتقدم الإسلاميين إلى موقع القيادة، تساعدهم على ذلك إرادة القتال، والانتشار العسكري، كما تشجعهم دينامية التقدم على الأرض على تجاوز الخلافات، والسير بخطى أقوى نحو الاتحاد في ما وراء تياراتهم ومدارسهم وأجنداتهم، المعتدلة والمتطرفة.
يطرح هذا أسئلةً كثيرةً على أصحاب هذا التيار المدني الذي مال، بشكل أكبر، نحو الكفاح السياسي، والذي غدر به حلفاؤه، وعجز عن تجاوز انقساماته وتوحيد قيادته، ويضعه أمام اختيارٍ صعب بين الخضوع للاحتلال الروسي الإيراني القابع تحت أسمال نظام الأسد المتهالك، والانقياد وراء مشروع جهادي سوري، يولد من لهيب حرب التسلط الوحشي والإبادة الجماعية والاحتلال الأجنبي والتقسيم، ما يزال يتقدّم وتتسع دائرة انتشاره، على الرغم من أنه لا يزال متعدّد التيارات والتوجهات، ولم يبلور هويته الواحدة، ولا أجندته السياسية بشكل واضح بعد.
لكنه يبدو، بعد معارك حلب التي تحولت إلى مسرح الصراع الرئيسي بين النظام والمعارضة، أول المرشحين لفرض قيادته على مقاومة شعبٍ هُدّت أركان وجوده، وروّع أطفاله، ويشعر بأنه أصبح من دون نصير.
لم يكن سوري واحد يتصور عندما هبت ثورة مارس/ آذار 2011، أنه سيجد نفسه يوماً أمام مثل هذا الاختيار. الأغلبية الساحقة من السوريين الذين غزوا الشوارع والساحات، بشعاراتهم وأهازيجهم ورقصاتهم الليلية، كانوا يلهجون ويحلمون بمشروع واحد: سورية المدنية التعدّدية الديمقراطية الواحدة، سورية العدالة والمساواة والمؤاخاة بين جميع أبنائها وجماعاتها القومية والمذهبية والفكرية والسياسية، سورية متصالحة مع نفسها وتاريخها، بما في ذلك مع الجماعات التي احتضنت النظام، بمختلف مذاهبها وطبقاتها، ومع التيارات والحركات الإسلامية التي أقصاها النظام، والتي أعلن أغلبها، منذ بداية الثورة، التزامه بالعهد الوطني المدني والديمقراطي.
غيرت حرب السنوات الخمس، وما شهدته من سياسات القتل والإبادة والتشريد، ومن نكران واستهتار عالمي بحياة السوريين ومستقبلهم، جميع الحسابات. وجاءت انتصارات معركة فك الحصار في حلب، لتمحو تاريخاً طويلاً من الخيبات والانتكاسات، ولتحيي الأمل بتجديد الثورة وإعادة عهد انتصاراتها. وهي تضع قوى الثورة والبلاد أمام منعطفٍ جديدٍ، وتعيد تشكيل المشهد العسكري، وبالتالي السياسي، بشكل مختلف تماماً عما كان عليه في حقبتها الأولى.
والسؤال اليوم مطروح على الإسلاميين الذين هم في طريقهم إلى حصاد تضحيات ملايين السوريين من كل التيارات والاتجاهات، وفي مواجهة نظام الجريمة وحلفائه، وعبث المجتمع الدولي، وخيبة أمل السوريين به، عن دور القوى المدنية، ومصير العهد الوطني الذي شكل ضمير جميع من شارك في الثورة منذ بدايتها من السوريين، والذي لاتزال قيم التسامح والنفور من التعصب والتطرف والانغلاق تشكل النبض العميق لثقافته وسلوكياته اليومية، بمعزٍل عن ظروف الصراع الراهن على الدولة والسلطة.
لا أعتقد أن أحداً من قادة الاسلاميين السوريين الذين فتحت لهم معركة فك الحصار عن حلب الطريق نحو تصدّر كفاح السوريين المرير ضد نظام الأسد يملكون الجواب الآن، أو أن همهم، وربما مصلحة كثيرين منهم، يشجعانهم على طرح السؤال، ومحاولة الإجابة عنه. وعلى الأغلب، ليسوا قادرين أو مستعدين بعد لطرحه على أنفسهم. وهذا ما يفسّر إصرار بعضهم على تسجيل معركة فك حصار حلب في سجل الانتصارات الإسلاموية بإطلاق اسم إبراهيم اليوسف عليها، بدل تسجيلها كما كان يقتضي الواجب الأخلاقي والسياسة معاً في سجل الانتصارات الوطنية الجامعة والمجمعة.
تبرهن معركة حلب على أن تصميم السوريين على التخلص من نظام الأسد وإرثه الأسود لا حد له ولا بديل. وهم على استعدادٍ ليراهنوا على أي قوةٍ يعتقدون في قدرتها على تحقيق غايتهم. لكن، ليس من أجل إقامة نظام بديل للاقصاء والتهميش. أخطر ما يمكن أن نشهده، في الأشهر والسنوات المقبلة، هو وضع السوريين، من جديد، أمام اختيار مستحيل: بين دولة نظام الاحتلال والتشبيح الأسدي، أو لادولة نظام طالبان أفغانستان اللاهث وراء خرائب الماضي، والرافض أي مفهوم للتقدم والتغيير والتجديد في الاقتصاد والمجتمع والدين.
إسقاط الديكتاتورية ومنظومة الحرب المؤبدة في سورية هو الهدف الذي لا يناقش فيه حرٌّ ولا يتقدم عليه واجب. وكسب المعارك العسكرية أولوية، ولا بديل عنه، لمنع الخصم من تحطيم مستقبل السوريين. لكن كسب الحرب، خصوصاً ضد هذا النوع من النظم، مثله مثل بناء المستقبل، لا يتحقق بالوسائل العسكرية وحدها. إنه، بالدرجة الأولى، شأن سياسي. ومعركة السيطرة على حلب وإدارتها هي الامتحان.
ونحن مقبلون على معركةٍ يتساوى فيها الموت والحياة، وكي لا نفقد إنسانيتنا، ولا نحرم من فرصة استعادة وطننا، وطن الجميع، لا ينبغي أن ننسى أننا لسنا طائفةً، ولا نحارب من أجل طائفة أو جماعة، مهما كان وضعها، وإنما نحارب من أجل سورية وحقوق الشعب السوري وحريته من دون تمييز، أي من أجل كرامة الإنسان، المتمثل في كل سوري، وأن نتذكّر دائماً أن ما فجر ثورة الشعب السوري هو رفض سياسة الإذلال والطائفية البغيضة والتمييز الاجتماعي والسياسي والمذهبي والتفتيت والتقسيم، وأن الوفاء للثورة وتضحيات شهدائها أوْلى أن يدفع إلى سلوك سبيل العدل، ورفع الظلم وبسط السلام ونشر المودة والألفة من رد الاعتبار لأحدٍ، أو حتى إرواء غليل المظلومين.
العربي الجديد – برهان غليون