معلوم لأي مطلع على الوضع في المشرق العربي أن شرارة الثورة ضد النظام السوري انطلقت، عام 2011، في مدينة درعا، على خلفية رد الفعل الوحشي لجهاز أمن ضد أطفال من تلاميذ مدرسة تأثروا بأجواء الثورات العربية وكتبوا بضعة شعارات ضد النظام.
تخيّل كثيرون، حينها، أن رأس النظام، بشار الأسد، كان سيصرف رئيس الفرع، الذي لم يكن غير ابن خالته، عاطف نجيب، وأن يعتذر من أهالي الضحايا، وهو ما كان يمكن أن يخفف أثر الجريمة على المدينة المفجوعة وأريافها المتعاطفة معها، لكن النظام اختار، بدلا من ذلك، حصار المدينة وتجويعها ثم مداهمتها واعتقال وجهائها، وبينهم خطيب الجامع العمري الكفيف، وكانت تلك الشرارة التي أطلقت موجات تعاطف مع المدينة، وغضب من النظام، تطوّرت إلى ثورة شعبية عارمة.
من المعلوم أيضا، أن مواجهة أي سلطة في العالم لشعبها بالقمع الشديد يفتح أبواب العنف العامّ على مصاريعها، ويؤدي إلى فقدان تلك السلطة جزءا كبيرا من شرعيتها، ويحوّل الصراع الداخليّ إلى مجال لتدخّل القوى الإقليمية والعالميّة، وهو ما حصل بسرعة كبيرة، فحالما تهاوت سلطة النظام أمام ضربات المعارضة المسلحة، حتى استدعى النظام دعما إيرانيا ثم روسيّا، وتلقّت المعارضة، في المقابل، أشكالا من الدعم المالي والعسكري المحدود، من أطراف دولية وإقليمية، وأمام استغلال قوى سلفيّة جهاديّة مسلحة للفراغ الأمني، تم تصعيد دور قوات كرديّة تابعة لحزب العمال الكردستاني التركي، مما استدعى تدخلا تركيا مضادا، وتحوّلت الثورة إلى حرب أهلية، وأصبح البلد مقسما لعدة كيانات تدعمها قوى إقليمية ودولية، مما أبقى دائرة العنف الدموي مستمرة حتى الآن.
بعد سيطرة للمعارضة السورية على مجمل مناطق حوران والقنيطرة، قرّر «التحالف الدولي» المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية، سحب الغطاء عن تلك المعارضة، ولتسكين مخاوف سلطات الأردن وإسرائيل من تموضع القوات الإيرانية والميليشيات الحليفة لها على الحدود، فقد لعبت روسيا دور المقاول المسؤول عن تحديد النفوذ الإيراني في الجنوب السوري، وكذلك وضع حلول وسط مع الأهالي، عبر تسويات مع فصائل المعارضة، ووضع بعضها تحت الغطاء العسكري الروسي (المسمى «الفيلق الخامس») ونتجت عن ذلك تسويات أنهت العمليات العسكرية في الجنوب في آب/أغسطس 2018، فاحتفظت بعض الفصائل بهيكلياتها وأسلحتها الخفيفة، فيما نفذ المقاتلون الرافضون لتسوية مع النظام عملية إخلاء ضخمة فغادر قرابة 10 آلاف مقاتل مع عائلاتهم إلى محافظة إدلب.
من نافل القول إن النظام الذي لم يقبل «تسوية» مع أطفال الضحايا عام 2011، لن يقبل «تسويات» مع عناصر مسلحة، والأمر ينطبق على إيران، التي أعطى انتخابها الرئيس إبراهيم رئيسي مؤخرا، دفعا لاستراتيجية طهران الهجومية، وبضمنه قرار العودة إلى الجنوب السوري، وتم ذلك عبر العمل على استقطاب آلاف من العناصر المسلحة لاحتوائهم ضمن أجهزة النظام القريبة من إيران، ولـ «حزب الله» الذي عاد إلى إقامة قواعد عسكرية له في المحافظة، فيما يشرف عشرات الضباط من «الحرس الثوري» في المحافظة، على جعلها مركز تحكم وسيطرة.
تتراجع، ضمن هذا السيناريو، «الضمانات» الروسيّة، وتعود كماشة النظام السوري وإيران للإطباق على المنطقة، وتتحوّل مناطق «خفض التصعيد» إلى مناطق حصار وهجوم وتجويع، فيستعيد أهل سهل حوران، بدايات الحرب عليهم، مرفوقة، هذه المرة، بإمكانيات التهجير الجماعي والتغيير الديمغرافي.
نقلا عن القدس العربي