خضر زكريا – العربي الجديد
كثر، في الآونة الأخيرة، الحديث عن انتهاء الثورة السورية، وحتى عن عدم وجود ثورة بالأساس. لا أتحدث، بالطبع، عن نظام الأسد وشبيحته وممالئيه، فهؤلاء أصروا، منذ البداية، على أن ثورة الشعب السوري منتصف/مارس آذار 2011 “مؤامرة كونية”، تستهدف “نظام المقاومة والممانعة”. أتحدث عن مثقفين وكتاب أعلنوا، في يوم من الأيام، تأييدهم الثورة السورية، وعن بعض الذين شاركوا في الحراك الثوري، بشكل من الأشكال، لكن الإحباط أصابهم، فقالوا إن الثورة انتهت، أو توقفت، أو خطفت، أو انحرفت، أو، في أحسن الحالات، كان هناك ثورة لكنها لم تعد موجودة.
من الطبيعي أن يصل بعضهم، ومنهم المخلصون لقضية الشعب السوري، إلى مثل هذه الاستنتاجات، بعد المآسي التي تعرض لها الشعب السوري، في السنوات الأربع من عمر الثورة، سواء من النظام الذي قتل ببراميله المتفجرة وأسلحته الكيماوية وغيرها من أدوات القتل نحو ربع مليون شخص، وتحاصر قواته مناطق عديدة، صار الناس فيها يموتون من الجوع (نعم من الجوع وليس من القصف!)، وتصفي أجهزته الأمنية خيرة شباب سورية وشاباتها تحت التعذيب الوحشي، ما أدى إلى تهجير نصف سكان سورية من بيوتهم. أو كان ذلك من الجماعات الإرهابية كداعش وأخواتها التي تمارس وحشية لا تقل بشاعة عن وحشية النظام، وصارت تسيطر على مساحات واسعة من الأراضي السورية؛ أو كان ذلك من “المجتمع الدولي” الذي تخلى، كلياً، عن الشعب السوري، وتركه فريسة بأيدي المليشيات الإيرانية، وتابعيها من حزب الله اللبناني ومليشيات أبي الفضل العباس العراقية من جهة، والمليشيات الإرهابية القادمة من بقاع عديدة، تمارس إرهابها تحت شعار الإسلام، والإسلام منهم براء، من جهة أخرى.
مع ذلك كله، أقول إن الثورة السورية مستمرة، وهي من أعظم الثورات في التاريخ المعاصر. وما أستند إليه في هذا القول:
أولاً: لست مع التعاريف الجامعة المانعة في العلوم الاجتماعية والسياسية، وبالتالي، لا أرى ضرورة لتعريف مصطلح “ثورة”، ولا أرى أهمية كبيرة للنقاش الدائر حول ما إذا كانت ثورة أو انتفاضة أو حراك شعبي أو.. يكفي أن تكون انتفاضة شعبية تهدف إلى إطاحة النظام القديم الذي لم يعد يقبل به الشعب، وإقامة نظام جديد تتبلور ملامحه في خضم الثورة نفسها.
ثانياً: الثورات العظيمة لا تحقق أهدافها بين يوم وليلة، ولا في سنوات قليلة. فالتاريخ الحديث والمعاصر عرف ثورات دامت عقوداً حتى آتت أكلها. الثورات صيرورات متواصلة تحتاج سنوات طويلة لتتبلور، عبر مطبات وتراجعات وإخفاقاتٍ كثيرة، فضلاً عن النجاحات. فكيف إذا جاءت في منطقة تتكالب عليها دول العالم الكبرى ودول الإقليم، وتستخدم فيها كل الأسلحة والوسائل لإفشالها.
ثالثاً: قامت الثورة السورية ضد نظام يكاد يكون فريداً في وحشيته ودمويته، نظام فاشي يمارس القتل والتنكيل بدم بارد، لا يردعه قانون ولا أخلاق. والناس الذين يتمردون ضد مثل هذا النظام، على الرغم من معرفتهم بطبيعته الإجرامية، وعلى الرغم من الذكريات الأليمة التي يحملها كل منهم، في نصف القرن الذي تسلط فيه على رقابهم، هم، من دون أدنى شك، ثوار عظام سيخلدهم التاريخ.
رابعاً: طرحت الثورة، منذ انطلاقتها، شعارات تدل على عمق وأصالة ووطنية الثوار الذين طرحوها. “الشعب السوري ما بنذل” “سورية بدها حرية” “الشعب السوري واحد”. هذه الشعارات عبرت عن أهداف لا يمكن أن تكون أقل من أهداف ثورة عظيمة. شعارات الكرامة والحرية ونبذ الطائفية والانقسام والتشرذم، في وجه نظام أهدر كرامة الناس، وقمع أبسط حرياتهم، وكرس النزعات الطائفية والولاءات المناطقية والشخصية، هي شعارات ثورة عظيمة.
خامساً: سعى النظام، بكل الوسائل، لتحويل الثورة الشعبية السلمية إلى ثورة مسلحة، لأن السلاح هو المجال الذي يتفوق فيه على الشعب. وليس ذنب الثورة والثوار أن حمل بعضهم السلاح دفاعاً عن حياته، وحياة أفراد أسرته وشرفهم وكرامتهم. فالنظام، بإصراره على البقاء بأي ثمن (الأسد أو نحرق البلد)، وأجهزته الأمنية، وبعض قواته العسكرية التي فتحت النيران على المتظاهرين العزل في درعا وحمص، ثم في كل مكان آخر على الأرض السورية، هو من دفع بعض الجنود والضباط إلى الانشقاق، رافضين توجيه أسلحتهم إلى صدور أهاليهم، وهو من دفع شباناً عديدين للتطوع لحمل السلاح في وجه الإجرام المعمم.
سادساً: المجموعات الإرهابية المسلحة (داعش وأخواتها)، والتي يدعي النظام، الآن، محاربتها، هي من صنع النظام نفسه. فهو من أطلق معظم قادتها من سجونه (كما أُطلق بعضُهم من سجون العراق)، بهدف الانقضاض على الثورة، وتحويلها عن أهدافها. والتاريخ يعرف كثيراً من الحالات التي تتحول فيه الجماعات المناصرة لنظام ما إلى مناهضة له، عندما تحين الفرصة المناسبة، وعندما ترى أن في وسعها الحلول محل ذلك النظام، في السيطرة والهيمنة والتحكم بمصائر الناس.
سابعاً: لعل من أهم ما يثبت أنها ثورة عظيمة، أنها مستمرة، على الرغم من تخلي معظم القوى الإقليمية والدولية عنها. ولا أتحدث، هنا، عن روسيا وإيران وأمثالهما من داعمي النظام، بل عمّن سموا أنفسهم أصدقاء الشعب السوري، الذين توهم كل منهم أن بإمكانه السيطرة على الثورة، وتحويلها لتخدم مصالحه وتطلعاته. ولطالما اكتشف الثوار، منذ البدايات، أن كل من دعم الثوار بالمال أوالسلاح، أو لنقل معظمهم على الأقل، كان يفعل ذلك لمصلحته، وتأكيد نفوذه. وهذا هو بالذات ما لعب دوراً حاسماً في تشتت قوى الثورة وتشرذمها، وتحول بعض قادة الجماعات المسلحة إلى أمراء حرب، يستغلون الثورة للإثراء على حساب دماء الثوار والمدنيين.
“الثورة في النهاية تنتصر. وفي سيرورة انتصارها، يتم الفرز بين الغث والسمين، بين الثوار الحقيقيين ومن يحاول ركوب الموجة”
ثامناً: لن أنهي هذه المقالة من دون الحديث عن القوى والجهات التي تنطحت لقيادة الثورة. لا أشك في أن كثيرين ممن شاركوا في تكوين منظمات “المعارضة السورية”، سواء المجلس الوطني أو “الائتلاف” أو هيئة التنسيق أو غيرها (وهو كثير ويتكاثر مع الأيام)، هم من الوطنيين المخلصين للثورة وأهدافها. لكن سلوك “أصدقاء الشعب السوري” والمجتمع الدولي من جهة، ووجود انتهازيين وقناصي فرص كثيرين بين أعضاء تلك المنظمات من جهة ثانية، والحالة البائسة التي أوصل النظامُ معارضيه إليها من جهة ثالثة، أدت إلى الوضع الكارثي الذي وصلت إليه هذه “المنظمات”.
الثورة مستمرة، على الرغم من كل شيء. ففي كل الثورات الكبرى في التاريخ يحدث مثل هذا. تتعدد المواقف ووجهات النظر، وتتصارع الجماعات المختلفة. لكن الثورة في النهاية تنتصر. وفي سيرورة انتصارها، يتم الفرز بين الغث والسمين، بين الثوار الحقيقيين ومن يحاول ركوب الموجة. والثورة ستذيب الجميع في بوتقتها، وتلفظ منها ما لا ينسجم مع مسيرتها الظافرة.
حُطم جدار الخوف، وعادت السياسة إلى المجتمع، بعد أن وُضع الجميع على الرف في العقود الماضية. هناك تنظيمات سياسية تنشأ، وحوارات حول أهم قضايا المجتمع تدور في كل مكان. الثورة بدأت. وهي مستمرة وستنتصر.