فيما يشارف عمرُ الثورة السورية على الدخول في أعتاب السنة العاشرة، تنشغل جهات عدّة، محلية ودولية، في إعداد ( جَرْدة حساب)، كخلاصات مُستمَدّة من سيرورة ما مضى، وبناء على تلك الخلاصات تحاول بعض الأطراف إنتاج تقييمها، ومن ثم بناء مواقفها التي تتأسس بالأصل على أولوية مصالحها، حيال ما يجري في سورية.
بعيداً عن التفاصيل، يمكن القول: إن ثمة مفاصل ثلاثة، كان لها الأثر الكبير في إحداث انعطافات حادّة في مسار الثورة، الأولى في شهر آب من العام 2013، حين استهدف نظام الأسد سكان الغوطة الشرقية بالسلاح الكيمياوي فقَتل (1429) مواطناً سورياً، وقد أوشك هذا العدوان أن يؤدي إلى دفع الإدارة الأمريكية لمعاقبة نظام الأسد عسكرياً، لولا تدخّل روسيا، وتحويل العنفوان الأمريكي إلى صفقة تكتفي – بموجبها – إدارة أوباما بتجريد النظام من ترسانته الكيمياوية، وتلغي العقاب العسكري المُفترض. ومنذ ذلك الحين وقر في نفوس الكثيرين بأن الولايات المتحدة الأمريكية لن تتدخل عسكرياً من أجل استهداف نظام الأسد استهدافاً موجعاً، حتى ولو أقدم حاكم دمشق على إبادة السوريين طرّاً.
المفصل الثاني كان في أواخر أيلول من العام 2015، حين حلّ المقبور قاسم سليماني ضيفاً سرياً على بوتين، طالباً منه أن يتدخّل تدخّلاً مباشراً في سورية لنجدة نظام الأسد الذي لم يعد يقوى على الصمود، على الرغم من مؤازرة ميليشيات إيران لجيشه، وبالفعل لقد استشاطت نخوة بوتين آنذاك، وبات الطيران الروسي يطوف بحمم الموت في الأجواء السورية، مستهدفاً فصائل المقاومة التي تقاتل الأسد، موازاةً لاستهدافه المواطنين المدنيين والبنى التحتية للمناطق التي تشكل حاضنة شعبية للثورة، وحين ذاك، خاب ظن الكثيرين، ممّن كانوا يراهنون على رفض واشنطن للاستفراد الروسي العسكري في سورية، موازاةً مع ميل الكثير من الأطراف الدولية والإقليمية إلى التماهي مع الرغبة الروسية، أو أنهم اكتفوا بالنظر إلى أن الهيمنة الروسية في سورية باتت أمراً واقعاً، ولا بدّ من بناء مواقف متصالحة مع هذا الواقع الجديد.
المفصل الثالث هو امتداد للمفصل الثاني، أي هو استثمار سياسي لما تمّ إنجازه عسكرياً، وأعني بذلك مسار (أستانا) في مطلع العام 2017، الذي استطاع بوتين – من خلاله – تحقيق أمرين: الأول، احتواء المقاومة المسلّحة، وجرّها إلى مفاوضات، كانت نتائجها كارثية بالنسبة إلى السوريين. والثاني يتجسّد في سعي بوتين للالتفاف على القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية، وإيجاد مسار بديل ينطلق من موازين القوى الراهنة على الأرض، وبالفعل بات الحق السوري الذي ضمنته القرارات الأممية مُختَزلاً بلجنة دستورية مجهولة النتائج والمصير.
لعلّ هذه المفاصل الثلاثة، كان لها كبير الأثر في إحداث تغيّرات نوعية فيما يخص المواقف الدولية من القضية السورية
لعلّ هذه المفاصل الثلاثة، كان لها كبير الأثر في إحداث تغيّرات نوعية فيما يخص المواقف الدولية من القضية السورية، لعلّ أبرزها، عدم اكتراث المجتمع الدولي بما يمارسه الروس من إجرام بحق السوريين، بل اتضح أن هذه اللامبالاة الدولية إنما هي بمثابة تفويض دولي لبوتين ليجعل من سورية حقل تجارب لشتى أنواع الأسلحة الروسية الكاسدة. وما زاد الطين بلّةً هو أن تماهي الكيانات الرسمية للمعارضة السورية مع المساعي الروسية قد قطع الطريق أمام أي احتجاج دولي أو إقليمي بمواجهة التمادي الروسي، وذلك من منطلق (لن نكون ملكيين أكثر من الملك) أو (ما زال القاضي راضي) بحسب التعبير العامي للسوريين.
كان من المُفترض أن تكون عوامل الانتصار العسكري التي حشدها حلفاء النظام، حوامل قوّة من شأنها أن تعيد إنتاج بشار الأسد من جديد، وتعيد له القدرة على بسط السيطرة على مقاليد الحكم والإدارة، فضلاً عن إعادة هيكلة جيشه المتهالك، إلّا أن ما حدث هو العكس من ذلك، فلم يعد بشار الأسد حاكماً لسورية سوى بالاسم فقط، فما بات ثابتاً ومنظوراً أن أهم حليفين للأسد، وهما روسيا وإيران، فقد باتا يتنافسان في التناوب على إهانته يوماً بعد يوم، ليؤكّد كل طرف منهما أنه الأجدر بجرّ بشار الأسد من رقبته، وإملاء ما يريد عليه، لأنه هو صاحب الفضل بالحيلولة دون سقوطه منذ عام 2012، ولئن رأينا ضابطاً روسياً ينهر بشار ولا يسمح له بالعبور للوقوف بمحاذاة بوتين، فإن إيران تسارع إلى الردّ، من خلال استدعاء بشار وإجلاسه صاغراً كمريدٍ يتذلّل في حضرة شيخه حسن روحاني، ثم ليردّ الروس بإهانة أقوى، حين يزور بوتين المركز الروسي في دمشق ويأمر بإحضار بشار إلى المقرّ الروسي، ولعل سوء الحظ طال وزير دفاعه علي أيوب، حين شوهد جالساً على مقعد منخفض، قيل إنه كرسي حمّام.
الجيش الذي دأب الأسد (الأب) منذ بداية سبعينيات القرن الماضي على هندسته وإعداده، وزعم أنه سيقود النضال لتحرير الجولان وفلسطين ويقود الأمة، أصبح مستنجداً بإسرائيل منذ الأشهر الأولى لانطلاقة الثورة، واتّضحت علائم بطولاته باستهداف الشعب السوري بأقذر وسائل الدمار وأكثرها إجراماً – السلاح الكيمياوي – البراميل المتفجرة – وانتهى هذا الجيش العقائدي إلى نبش القبور وتعفيش أثاث البيوت وممارسة جميع أشكال اللصوصية في بلدات وقرى ادلب وحلب، وما بات ثابتاً أيضاً، أن جيش الأسد – على امتداد تسع سنوات من المواجهة – لم يفلح في أي معركة نوعية غاب عن أجوائها الطيران الروسي.
لم تعد إرادة نظام الأسد مُصادرةً على مستوى السياسة الخارجية فحسب، بل حتى في مناطق نفوذه الطائفي أيضاً، إلى درجة جعلت سكان الساحل السوري يبدون تذمراً شديدً من هيمنة الروس على جميع مفاصل الحياة، إضافةً إلى الهيمنة الإيرانية التامة على المناطق الممتدة من الميادين وحتى الحدود العراقية، فضلاً عن ريفي دمشق وحمص.
الموالون لنظام الأسد، وحاضنته الشعبية، ممن كان يعتقد أن ولاءه هو انحياز إلى سيادة وكرامة سورية في وجه مؤامرة كونية، بات اليوم من أشدّ الساخطين على النظام – تصريحاً أو تلويحاً – ليس من اجل الكرامة والسيادة كما كان مزعوماً من قبل، بل من أجل أدنى مقوّمات الحياة التي تحفظ ديمومة الكائن البشري، كما بات الشعور العام لدى هذه الشريحة، بأن اهتمام النظام بمصيره السلطوي أهم بكثير من حياة مناصريه جميعاً، حقيقةٌ ملموسة وليس شأناً دعائياً يروّجه المتآمرون.
إن عبارة (هزيمة نظام الأسد أمام إرادة السوريين) ليست نشيداً ثورجياً كما يقول البعض، وليست تعبيراً رغبوياً لدى أنصار الثورة، بل هي حقيقة ملموسة بالمعايير الدقيقة، العسكرية والسياسية والاجتماعية، ذلك أن السوريين الرافضين لنظام الأسد، ليسوا ممن هم خارج سورية في بلدان اللجوء فحسب، والذي يبلغ تعدادهم سبعة ملايين مواطن، بل ثمة أمثالهم عدداً، من اللاجئين في الداخل السوري، سواء في المخيمات أو في المدن والبلدات التي ما تزال خارج سيطرة النظام، وهؤلاء نزحوا من مدنهم وبلداتهم هرباً من براميل بشار ووسائل قتله ودماره، وزنازين سجونه، ويبقى الثلث الثالث من سكان سورية، ممّن ما يزال في مناطق سيطرة النظام، يصارع من أجل البقاء، وهو يعلم أن قدرة بشار الأسد على بقائه مسيطراً إنما هي مرهونة باستمرار الدعم المطلق لشريكي النظام، الروسي والإيراني، اللذين لولاهما لما استمر النظام في بقائه.
لعله من المؤكد، أن المواجهة الحقيقية، ومنذ سنوات، لم تعد قائمة بين السوريين ونظام الأسد، بل هي في مواجهة وكلائه الدوليين، ومن الصحيح أيضاً ان الثورة تقهقرت كثيراً أمام جبروت وبطش بوتين وملالي إيران، ولكنّ هذين الأخيرين لم يستطيعا، خلال تسع سنوات متواصلة، أن يستثمرا نصرهما العسكري، ويحوّلاه إلى نصر سياسي يفضي إلى حل سياسي يكرّس حكم آل الأسد، ويقرّه المجتمع الدولي، لأسباب لا يتسع سياق هذه المقالة لذكرها.
صمود السوريين أمام نظام الأسد المتهالك وحلفائه الدوليين، هل هو انتصارٌ نهائي للثورة؟ الجواب: لا بالمطلق، ذلك أن ما طال الثورة من خراب وتصدّع داخلي، يكاد يفوق التحدّيات الخارجية التي ما تزال تواجهها، ولكن ما هو مطلق التأكيد: أن الثورة لم تمت، وما تزال مستمرّة.
الكاتب: حسن النيفي
نقلا عن: تلفزيون سوريا