عرفت القاهرة قبل ان أزورها … من روايات الاديب الراحل نجيب محفوظ .. الذي تناول في رواياته حياة الحارة المصرية الشعبية في اواسط القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر .. سور يحيط بالحارة .. . داخله بيوت .. تتراوح بين القصور الفخمة والبيوت الطينية البسيطة .. تجار واصحاب حرف وبائعين جوالين وشيخ مسجد وفتوة ورجال الفتوة (الفتوة : يقوم مقام زعيم او
عكيد الحارة ) .. مكون واحد يميز الحارة المصرية عن أي حارة او نسق اجتماعي في الدنيا كلها: (الحرافيش) !! … وهم مجموعة بشرية من الفقراء المسحوقين المهمشين للغاية. يأكلون من القمامة يعملون بالسخرة يعيشون ينامون يتزوجون يموتون .. على الارصفة و في الخرائب .. يسود بينهم الجهل والتخلف والبؤس .. يحتقرهم الجميع يستغلهم الجميع .. ولا يكترث بأمرهم احد. يدفع فقرهم بهم في كثير من الاحيان الى السرقة او بيع جسد لطالب متعة في مقابل رغيف خبز واحد او بيات ليلة تحت سقف في غرفة دافئة.
في عام 2009 لمست اقدامي تراب أرض الفراعنة .. الساعات الاولى لجولتي في القاهرة كانت كالحلم .. النيل .. الشوارع الاثرية الاحياء القديمة .. المعالم التاريخية .. الاهرام … حي المهندسين المقارب لحي ابو رمانة في دمشق .. الزحام الجميل .. وماهي الا ساعات حتى ذهب هذا الوهج … الحرافيش في كل مكان .. على الارصفة في السيارات والسرفيس .. في الاسواق والطرق والمحلات فوق الجسور وتحتها كما وصفهم نجيب محفوظ … وعلى قسوة توصيفه لهم .. فقد حوت الصورة على ارض الواقع ذلا ومرارة وقهرا واضمحلال عجز قلم الكاتب عن توفيته حقه … كنت اظن ان الحرافيش مجموعة .. طبقة .. جزء .. من المجتمع المصري واذ بي ارى جل المصرين .. حرافيش بامتياز !!
عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية … قامت تلك الثورة العظيمة التي اظهرت لنا كم الشباب المصري المثقف الواعي والوطني المنفجر الثائر الرافض تحويل بلد عظيم الى مزرعة شخصية لمبارك وابناءه وحاشيته .. تنحى حسني .. فرح الثوار .. رقصوا قليلا .. نظفوا الميدان وذهبوا الى المنزل لينالوا قسطا من الراحة بعد عناء ايام واسابيع طويلة من الكفاح والصراع .. في اثناء ذلك كان هناك مجموعتين مستيقظتين .. الاخوان المسلمون و العسكر ….
اذكر جيدا مقالا للأستاذ ابراهيم عيسى كتبه في الايام القليلة السابقة لحسم السباق الرئاسي بين احمد شفيق رئيس الوزراء السابق والدكتور محمد مرسي مرشح حزب الحرية والعدالة الجناح السياسي لجماعة الاخوان المسلمين في مصر .. كان المقال بعنوان (خيار المصرين محصور بين البيادة ( البسطار العسكري ) واللحية ) … ولربما كان العنوان قاسيا للغاية .. الا ان واقع مصر ما بعد الثورة كان اقسى بكثير … الثوار بجميع شرائحهم وتنظيماتهم وكياناتهم السياسية … 6 ابريل .. الاشتراكيون الثوريون.
حراس الثورة .. التراس الاهلي .. حركة كفاية .. حركة الثورة المستمرة .. وغيرهم من الكيانات … مهمشين بالكامل.
والانتخابات لا تعبر عن خيار ثورة بقدر تعبيرها عن قطبية ثنائية بين مرشح يمثل الفلول والعسكر ومرشح يمثل الاخوان … الحزب السياسي المصري الوحيد الذي كان منظما بكوادره وقدراته آن ذاك … نجح مرسي … واقسم القسم في ميدان التحرير معقل الثورة المصرية .. وصدر نفسه كرئيس انتخبته الثورة … طوال عام كامل لم يقدم مرسي للمصرين سوى خيبات الامل … وعلى راس تلك الخيبات المماطلة في محاكمة حسني مبارك ونجليه ووزير داخليته حبيب العدلي وعدم الاستجابة لمطلب تحويل هؤلاء الى محكمة ثورية …. خطة ال 90 يوم التي وعد المصرين فيها بقلب مصر الى اوربا ولم يحدث شيء … الاعلان الدستوري المخالف للدستور … وهنا انوه على عدم موافقتي لما يطرحه الناقدون للإخوان لمجرد النقد .. وما يطرحونه من كلام عن الفقر والفساد والكساد في عهد الاخوان … وارى في ذلك الكثير من الاجحاف ففي النهاية مرسي لم يكن ساحرا … فقد تسلمت حكومته ارثا ودولة ومجتمعا تم تدميره على مدى اكثر من 40 عام … الا اني كثوري شأني شأن كل ثوار الدنيا … ارى ان المكتوب مبين من عنوانه كما يقول المثل .. وقد كانت العناوين التي طرحها مرسي مخيبة لاملي ولامل كل مصري ولامل كل من راي في الثورة المصرية نموذجا رائعا وفريدا .
في الثلاثين من يوليو شهدت مصر مسرحية مكشوفة .. عاد بموجبها العسكر والبوليس بصحبة فلول النظام السابق وعلى راسهم الفريق عبد الفتاح السيسي وتم خلع محمد مرسي واعتقاله واعلان جماعة الإخوان المسلمين جماعة ارهابية … اتى بعدها انتخابات رئاسية تعتبر انتخابات الرئاسة في سوريا نزيهة بالمقارنة بها … تبعت هذه المسرحية فصول من القمع والتعسف ومسمار محاربة الارهاب وما صاحب ذلك من اعتقال لكل حر مهما اختلف توجهه السياسي بمجرد نقده لتلك الممارسات البوليسية تحت ذريعة : حفظ هيبة الدولة !!!! … وعاد الاخوان الى استئثار مناهضة الانقلاب في الشارع والاعلام وكأن ما حصل من تدمير لأسس الديموقراطية يخص الاخوان وحدهم ناهيك عن تصوير ان القضية والمشكلة كلها في مصر هي عودة محمد مرسي من عدمها الى الحكم .. مما دفع الى احجام الكثيرين عن مناهضة سلطة الانقلاب ومعارضتها … ناهيك عن انتفاء وجود أي مشروع تنموي ينهض بالاقتصاد الا اذا اعتبرنا التوسل المتكرر واستجداء دول الخليج مشاريع تنموية.. مبارك براءة !!! …. جمال مبارك الوريث الموعد .. براءة !!! … علاء مبارك .. النسخة المصرية لرامي مخلوف .. براءة !!! …. كنت اظن حينها ان مصر ستنفجر في تلك الليلة …. الغريب ان شيئا لم يحدث … وكأن الناس قد الفوا الخنوع وقرروا ان يموتوا بصمت ….. وعليه اتى حكم اعدام رئيس منتخب … حكم اعدام محمد مرسي .. ولم يحدث شيء .. واكاد اجزم انه لن يحدث شيء في القريب العاجل
الاخوان .. والعسكر … كلاهما همش الثوار والمثقفين … وكلاهما فضل ان يسعى لمشروعه الشخصي عوضا عن مشروع الثورة بعد عشر سنوات …. ستخرج ثورة كبيرة في مصر … وللأسف لن تكون ثورة عظيمة مدنية مرموقة المطالب والكيان … بل ستخرج ثورة قوامها الجياع والمحرومين تعض نواجذها اسفلت الطرقات وحديد السكك وتأكل القلوب والاكباد … من همش ثورة الثوار ….. لا ينبغي ان يستغرب ان قامت عليه في يوم من الايام …. ثورة الحرافيش.
خاص لـ المركز الصحفي السوري
