صحيفة نيويورك تايمز 8/4/2014
التغير في الأجواء هنا في العاصمة السورية أمر لا يمكن أن تخطئه العين. أصوات التفجيرات لم تعد هي السائدة ليلا نهارا. توتر المخاوف الأمنية تخبو آثاره بصورة ملحوظة. نقاط التفتيش موجودة في كل مكان ولكن الحرس في حالة استرخاء, وحتى أنهم يتبادلون المزاح معنا :”هل معكم أي قنابل؟”.
مع سيطرة القوات الحكومية على معاقل المتمردين على طول الحدود اللبنانية, وتأمين ممر استراتيجي من دمشق إلى الساحل, مسقط رأس الرئيس بشار الأسد, فإن رسالة الحكومة هنا واضحة وهي أنها تحقق النصر وأن بإمكانها أن تكون متسامحة في نفس الوقت. فهي تقدم ما تطلق عليه المصالحة للتائبين من صفوف المعارضة, والبعض منهم قبل هذا العرض.
ولكن الهدوء النسبي ربما يكون مضللا. خلف الهدوء الذي تفرضه قوات الجيش, هناك الحصار والجوع, ويبدو أن المسرح مهيئ الآن لفترة طويلة من الاضطراب للصراع الذي طال أمده والذي من الممكن أن يتفجر مرة أخرى لشهور أو حتى سنوات قادمة. الاستياء وانعدام الثقة يسود في كلا الطرفين.
على الرغم من إستعادة الحكومة لسيطرتها على وسط البلاد وقيامها بفرض وقف لإطلاق النار في ضواحي دمشق المحاصرة منذ فترة طويلة, إلاأنها لم تنجح في حل أي من المظالم السياسية التي لا زالت تمزق النسيج الوطني. معارضوها المسلحون وغير المسلحون, ينسحبون ويقرون بالهزيمة في بعض المناطق, في الوقت الحالي على الأقل. ومع ذلك فإن الكثير منهم يقولون إنهم لم يستسلموا, ولكنهم يعيدون تقييم خططهم وأهدافهم مع نظرة إلى المستقبل.
عشرات من المقابلات, التي أجريت في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة في دمشق وفي مركز مدينة حمص وفي تدمر البعيدة, تكشف عن أن الكثير من السوريين – المؤيدين وغير المؤيدين للحكومة- يشكون في التطمينات الرسمية بأن الحياة تعود إلى طبيعتها. الكثير من التسعة ملايين شخص الذين أجبروا على ترك بيوتهم لا زالوا غير متأكدين متى أو كيف سوف يعودون إلى ديارهم.
في السيدة زينب, خارج دمشق, قالت سيدة شيعية هربت من بلدة شيعية صغيرة يحاصرها المتمردون السنة إنها أنها كانت تأمل في أن ينضم ابنها إلى مقاتلي الحكومة في عيد ميلاده الخامس عشر في . بالقرب من ذلك المكان, كان هناك امرأة شيعية دفنت زوجها, الذي كان مقاتلا في صفوف القوات الحكومية وقتل خلال معركة مع المتمردين. و قالت إنها لن تعود إلى قريتها ذات الأغلبية السنية, بعد أن أحرق المتمردون الذين كان من ضمنهم جيرانها القدماء متجر العائلة “لأنهم شيعة”.
وأضافت :” لقد انتهى كل شئ”.
في قلب العاصمة, حتى وراء البوابات التي أمر الأمن حديثا بأن تطلى بشكل موحد بالعلم السوري الرسمي, يقول معارضو الحكومة إنهم يخفضون رؤوسهم حاليا. ويضيفون إن عددا قليلا من اللاجئين يصدقون وعود الحكومة بالعودة الآمنة إلى المناطق التي كانت شهدت تمردا في السابق.
بعضهم تعهد بمواصلة الصراع بصورة سلمية؛ آخرون يقولون إن المقاتلين أصبحوا يستسلمون بسبب نقص السلاح, أو من أجل تجنيب بلداتهم المزيد من الدمار والجوع, ولكن ذلك لا يعود بأي شكل من الأشكال إلى تغير في القلوب.
يقول صاحب أحد المحال التجارية, الذي طلب مثل آخرين بعدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية :” ليس هناك الآن أي هدف أو أموال أو أسلحة. ولكني متأكد أن آلافا من الشباب ينتظرون الفرصة لينضموا إلى القتال”.
يصر المسئولون أن السوريين سوف يعودون ليعيشوا حياة هادئة سويا قريبا, وأن الكثيرين من جميع الأطراف يأملون ذلك بشدة. ولكن الشكاوى حول القمع والفساد وعدم المساواة التي انطلقت المظاهرات احتجاجا عليها عام 2011 ظلت دون علاج لحد الآن. وكذلك الحال بالنسبة للمظالم التي ظهرت بصورة كبيرة خلال الحرب التي حصدت أرواح 150000 شخص, وعمقت الانقسامات الطائفية والسياسية وتركت في كل أسرة على ما يبدو قتيلا أو مصابا أو معتقلا أو مختطفا.
هذه الندوب تبدو أكثر حجما من تلك التي تركها تمرد الإخوان المسلمون عام 1982, والقمع الذي مارسته قوات الأمن الذي أدى إلى قتل عشرات الآلاف وسوى مدينة حماة القديمة بالأرض. هذه الجراحات تقرحت بصمت لعقود طويلة, وساهمت في إذكاء نار الحريق الحالي.
في تغير في الموقف, تقر الحكومة السورية الآن أن الكثير من السوريين, وليس الأجانب فقط, يقاتلونها. ولكن سواء من أجل تبرير العفو أو لتجنب تقديم أي تنازلات, فإن موقف المسئولين المعلن هو أن معظم المتمردين السوريين لا يملكون دوافع سياسية, ولكنههم يحصلون على الرشى ويتعرضون للخداع وغسيل الدماغ والإكراه وهم ببساطة أشخاص أميون سوف يرحب بعودتهم كعودة الابن الضال إلى حضن أبيه.
معارضو الأسد يقولون إن أي مصالحة يجب أن تكون باتجاهين. ويضيفون أن على الحكومة أن تعترف أنها قصفت الأحياء واعتقلت وقتلت المتظاهرين السلميين بصورة ممنهجة.
يقول رجل أعمال آخر في دمشق :” عليهم أن يعترفوا بأخطائهم وأن يعتذروا للشعب السوري. لن يكون هناك حل سياسي دون عدالة انتقالية. الجميع في كلا الطرفين ارتكب جرائم ويجب أن يحاكم”.
ولكن بعض المسئولين القائمين على أمر المصالحة يقولون إنه ليس لدى الدولة ما تعتذر عنه. الرائد عمار, وهو ضابط في الأمن السياسي في حمص, تعرض وجهه للشلل الجزئي نتيجة لرصاصة تعرض لها من المتمردين, قال إنه غفر لمن أطلق عليه الرصاص من أجل سوريا. ولكن الانتهاكات وجرائم الحرب التي ارتكبت على يد قوات الأمن هي “مجرد إشاعات لم تقع من الأصل” كما يقول.
وقد كان يقف أمام مبنى مدرسة تجمع فيها عدد من المتمردين السابقين الذين جاؤوا من أجل التدقيق الأمني بعد خروجهم من حمص القديمة مقابل إلقاء سلاحهم.
المئات منهم أطلق سراحهم, ولكن عددا كبيرا لا زال هناك, بعض باقون مع أسرهم. في فناء المدرسة وضع الرائد ذراعه حول أعناق شباب سوريين ووصفهم بأنهم أصدقاءه الجدد الذين انضموا إليه ليلعبوا الشطرنج وكرة القدم.
وقال الرجال إنهم قاتلوا من أجل المال أو في سبيل معتقدات ضالة. وقالوا مرددين ما قاله مقاتلون من طرف المعارضة إن بعض قادة المتمردين كانوا يخزنون السجائر والأسلحة والطعام بينما كانوا يعانون هم من الجوع.
يقول أحدهم :” أكلنا القطط, وكنا على وشك أكل البشر”.
وأضاف, بينما كان الضابط يسمع :” الله يحمي الجيش”.
بعد ذلك, همس أحدهم :” ليس كل ما قلناه صحيح”. وبعد إجلائه قال :” القلب مرتاح, ولكن العقل يتساءل ما الذي سوف يحدث لنا”.
مناصروا الحكومة في حمص انزعجوا من قرارها القاضي بالسماح بعمليات الإجلاء, وضمان الحصول على العفو وتقديم كميات محدودة من الطعام للمدينة القديمة في يناير من هذه السنة.
تقول جميلة علي ذات ال42 عاما, التي تقيم في شارع تقسمه حواجز خرسانية لحماية المدنيين من رصاص قناصي المتمردين :” إنهم يقوون شوكة الإرهابيين” , وتضيف إن ابنتها الصغيرة بالكاد نجت من ذلك الرصاص.
ولكن ليس هناك أي خلاف أن المتمردين, على الأقل في وسط سوريا, لا زالوا يقاتلون.
يقول أحد المقاتلين الذين تم إجلاؤهم واسمه أبو عبدو الحمصي :” سوف نقبل الثورة في حمص ونقول لها وداعا خلال الأسبوعين القادمين”. وأضاف خلال مقابلة هاتقية بعد أن تم إطلاق سراحه من المدرسة إن 600 مقاتل فقط لا زالوا في حمص القديمة بعد أن كان العدد يصل إلى 1500 مقاتل, مع استمرار خروج العشرات بشكل يومي.
لقد تحدى الأسد توقعات الرئيس أوباما قبل عامين بأن أيامه أصبحت معدودة. حيث استفاد من الدعم الكبير الذي تلقاه من قاعدته السورية ومن حزب الله وروسيا وإيران, ومن تفرق خصومه المحليين والدوليين وصعود المتمردين المتطرفين الذين استنزفوا تعاطف السوريين مع الثورة والعديد من الداعمين الآخرين.
حاليا, يبدو أنه يتطلع إلى إعادة انتخابه. حيث تنتشر ملصقات جديدة تشير إلى أنه انتصر على العدوان العالمي. في حمص, يمكن قراءة النص التالي :” المقاومة والصمود والنصر وإعادة الإعمار”.
ولكن في حي باب السباع, الذي دخل في التمرد عام 2012, يمكن رؤية كتل من المباني المنهارة فيه بشكل كامل. يقول سكانه إنه لا يمكن لهم إعادة الإعمار بعد, أو الثقة بجيرانهم لأنه القتال يمكن أن يندلع مرة أخرى.
في دمشق, عاد الصخب إلى المدينة القديمة, ولكن التجار يقولون إن الزبائن مفلسون وأن المبيعات ضعيفة جدا. كما ينظر إلى اتفاقيات وقف إطلاق النار على أنها هشة, حصلت بالإكراه أو أنها غير أكيدة.
في الوقت الراهن الشعور بالإرهاق والخوف والصدمة من الكلفة الباهظة للثورة يبدو جليا وسط سوريا.
أحد أصحاب المحال التجارية الذي يميل إلى المتمردين قال إن رساما جاء مؤخرا مع رجال مسلحين من الحكومة عرض عليه رسم العلم السوري الرسمي على باب متجره مقابل 30 دولار.
وأضاف :” قلت له: حسنا. وإن جاءوا مرة أخرى مع التلفزيون سوف أقول لهم أيضا : بشار العظيم”.