لندن – تبشر الإرادة السعودية الجديدة والعزيمة التي أظهرتها الرياض حديثا في تذليل الصعوبات وتخفيف حدة الأزمات، خاصة بعد عملية “عاصفة الحزم”، بإنشاء فضاءات قرار عربي مستقلة جديدة مواتية لسياسات المنطقة، وفق دراسة صادرة عن مركز عمران للدراسات الإستراتيجية، لفتت إلى أنّ مردود هذه الإرادة وإن استلزم بعض الوقت لاكتماله سيكون إيجابيا لشعوب المشرق قاطبة وعلى رأسها الشعب السوري.
دفعت الظروف الإقليمية والوضع الاستراتيجي المعقّد القيادة السعودية إلى مراجعة سياستها الخارجية، والانتقال إلى مرحلة ردّ الفعل وعدم الاكتفاء بالبيانات والتصريحات، بعد أن أصبح الأمن القومي للبلاد مهددا بشكل مباشر بفعل التمدّد الإيراني في اليمن، الجارة الجنوبية الحدودية للسعودية، وفي عواصم عربية أخرى شأن بغداد ودمشق بيروت.
ومع تصاعد اختلال الموازين في المنطقة، ومحاولات إيران استغلال ذلك الوضع لصالحها، جاء تغير مفاجئ في السياسة السعودية، عبر عملية “عاصفة الحزم”، التي أخذت السعودية بزمام المبادرة، ووضعت نفسها موضع قوّة، بمعزل عن الإملاءات الأميركية والغربية، وقادت عملية عسكرية عربية، يؤكّد خبراء أنّها ألقت بظلالها على مجريات الأحداث وصناعة القرارات الإستراتيجية في المنطقة عموما.
وكان من اللافت في ما يتعلّق بـ”عاصفة الحزم”، إلى جانب أنّها أول مبادرة عسكرية سعودية خارجية، أنّ باكورة التغيير في السعودية نتج عنها وبشكل سريع ظهور دعم عربي كبير على المستوى الشعبي، رافقه شبه إجماع سياسي للأنظمة العربية قلّ أن حدث من قبل، وفق ورقة مركز عمران، التي تؤكّد أن الشارع العربي، بمختلف مكوّناته، “يقف اليوم على مفترق طريق ينتظر وضوح مكوّنات التوجّه الجديد للسعودية وإتمامه بمستلزماته المنطقية واتساق السياسة الإقليمية والخارجية مع السياسات الداخلية ضمن البوتقة العربية”.
وتدعم الورقة البحثية، كذلك، الآراء القائلة إنّ أهداف “عاصفة الحزم” لن تكتمل دون حزم آخر في سوريا، بل إنّ اليمن هو نقطة انطلاق التوجّهات الناشئة للمكلة العربية السعودية وتغييرها الواعد، والذي ستنضج ثمراته كلما ضاق الخناق على إيران وحوصرت أذرعها في سوريا ولبنان والعراق واليمن.
توجهات جديدة
تتطرّق الورقة البحثية منذ بدايتها إلى الدور الإقليمي للسعودية، مشيرة إلى أنّ السياسة الخارجية للمملكة على مدى الحقبة الماضية، تسير وفق نسقها المعتاد وسياستها الا8حتوائية الناعمة، وقد سبّب ذلك النهج حالة استقطاب إقليمي ساهم في تأزّم المشهد السياسي على مستوى النظام العربي ككلّ. كما دفعت ثنائية الرؤية “صديق/عدو” إلى وقوع المملكة في مأزق تضارب مصالحها ومبرّرات تدخّلها وخياراتها.
وتعتبر سوريا في هذا الصدد مثالا واضحا للأزمة السعودية، حيث يشكّل تنحّي بشار الأسد عن الحكم أولوية لها من أجل وقف التمدّد الإيراني في المنطقة، لكن وفي الآن نفسه مالت الرياض سابقا إلى خيار استمرار النظام السوري بنسخة معدّلة لضمان عدم انتقاله إلى أيدي قوى سياسة لا ترتاح لها.
وضاعف ظهور التنظيمات الجهادية العابرة للحدود في العراق وسوريا الأزمة السورية، مثلما عقّد الرؤية السعودية لمعالجة هذه القضية، التي خرجت من نطاقها السوري الداخلي لتصبح بدورها مسألة أمن قومي عربي وإقليمي. وتعقّد الوضع أكثر بعد الاتفاق النووي وقبول إيران كشريك للغرب في محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، الأمر الذي يؤدّي إلى تدعيم تواجد إيران في المنطقة وتمكين نفوذها في المشرق العربي عامّة، ممّا يشتّت جهود السّعودية في تحقيق أهدافها في سوريا ناهيك على خطره على أمن السعودية ذاتها.
وأظهرت الأشهر الأولى من الحقبة الجديدة للمملكة، في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز، توجّه الرياض الجديد، الذي تجلّى بشكل واضح في اليمن، ويتوقّع أن يتجلّى أيضا، وإن كان بشكل مختلف، في سوريا، حيث لا ينتظر الخبراء أن تقود السعودية حملة عسكرية على سوريا، على غرار اليمن، فثمة فوارق نوعية بين الحالتين اليمنية والسورية، وإذ وفرت للأولى فرصة تقدّم دور عسكري رادع للتّمدد الحوثي المدعوم إيرانيا، فإنها تعيق في الحالة الثانية إمكانية تبلور هذه الفرصة.
ولا يختلف الخبراء في أنّ سوريا ليست اليمن، وأنّ موقعها في الحسابات الإستراتيجية الإيرانية يختلف عن الموقع اليمني، مثلما يختلف موقعها بالنسبة للسّعودية، لكن ذلك لا ينفي أهمية الدور السعودي في بلورة تدخّل لحلّ الأزمة السورية، خاصة بعد بداية تشكيل القوة العربية المشتركة.
وكانت مصادر دبلوماسية خليجية قالت لـ”العرب” إنّ الرياض ستعمل على استثمار نجاحها في “عاصفة الحزم” باليمن لتحريك الجبهة السورية والضغط على بشار الأسد للقبول بحل سياسي على قاعدة جنيف 2”.اليمن يشكل نقطة انطلاق التوجّهات الناشئة للسعودية وتغييرها الواعد
والتساؤل عن إمكانية استثمار نجاح “عاصفة الحزم” في سوريا، أثارته بعض أطراف المعارضة السورية تحدثت عن تشكيل تحالف مماثل، يتصدى لممارسات نظام الأسد ولداعش وللدور الإيراني، ويمكّن السوريين من وقف دوامة العنف وتقرير مصيرهم.
وأكّد رئيس المجلس الوطني السوري المعارض، جورج صبرا، على أنّ عاصفة الحزم مؤشر لبداية زمن جديد في المنطقة، لأن الاستفزاز الإيراني وصل إلى حدود لا تطاق، فها هو يحاصر الممرات البحرية للمنطقة، وحتى موانئ البحر الأبيض المتوسط اللبنانية والسورية، باتت كلها تحت الهيمنة الإيرانية. ومن هنا جاءت “عاصفة الحزم” لتبعث الأمل من جديد في الخلاص من تلك الهيمنة، وباتت إمكانية الرد العربي على التمدد الإيراني ممكنة.
وأضاف جورج صبرا قائلا، في تصريحات صحفية، “نحن كثوار سوريين نستبشر خيرا بعاصفة الحزم ونقول، نريد لعاصفة الحزم أن تمتد إلى سوريا، لأنّها المدخل الذي تسرب منه النفوذ الإيراني إلى بلاد العرب، منذ عهد نظام حافظ الأسد ومن بعده ابنه بشار الذي جعل البلاد جسرا يمر عليه نفوذ الإيرانيين إلى باقي المنطقة العربية”، مشدّدا على ضرورة أن يُقطع هذا الجسر بتحرير سوريا من نظام بشار الأسد وتهديد الثورات والنهج الطائفي الذي يتم تمريره إلى الوطن العربي”.
نهج قيد التطور وتحديات جمة
تكشف طبيعة “عاصفة الحزم” ملامح الأداء السياسي والأمني السعودي الجديد، وقد صنّفت دراسة مركز عمران البحثي، هذه الملامح كالتالي:
* أولا: قرار السعودية في التدخّل جاء استجابة جريئة لطارئ خطير بعد زحف الحوثيين على عدن، ولولا تسارع الأحداث على نحو مليء بالتهديدات لما تدخّلت الرياض، لحماية الخاصرة الخليجية في اليمن.
* ثانيا: لم يتم بعد تحديد حدود نجاح حملة “عاصفة الحزم” بشكل دقيق، ورغم الإعلان أن هدف السعودية هو دفع الحوثيين إلى طاولة الحوار، إلا أن نتائج العملية العسكرية مازلت قيد الدراسة.
* ثالثا: حرص السعودية على مراعاة الحالة الاجتماعية اليمنية المركّبة، فإلى جانب مواجهة الحوثيين المدعومين إيرانيا، فإن الرياض، من ناحية، مطالبة بوقف أي تقدّم يمكن أن يحققه تنظيم القاعدة شرقيّ البلاد، خصوصا حول مدينة المكلاّ. ومن ناحية أخرى ينبغي على الرياض إعادة تأهيل الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي شعبيّا، وكسب تأييد شرائح واسعة من الزيديين والموالين للرئيس السابق علي عبدالله صالح وطرد شبح تقسيم البلاد.
لتخلص الورقة البحثية الصادرة عن مركز عمران للدراسات في نهاية فصلها المتعلق بتحديد ملامح الأداء السياسي والأمني للسعودية في اليمن إلى أن تحرّك الرّياض الأخير والرّغبة في تغيير موازين القوى في المشرق لا بد أن يخرجا من السياق اليمني الضيّق إلى سياق الأزمة العامّة، التي تشمل سوريا في جانبها الأكبر.جورج صبرا: نحن كثوار نريد لعاصفة الحزم أن تمتد إلى سوريا
حزم مختلف في سوريا
لا شكّ أن عاصفة الحزم أسست لحقبة جديدة في المشرق العربي، اضطلعت فيها القوى العربية بأخذ زمام المبادرة، ممهّدة لفرصة قيام نظام إقليمي جديد يقلّص الطموحات الإقليمية لإيران، إلا أن الأولوية الكبرى للسعودية اليوم هي نجاح حملتها في اليمن، إلا أن ذلك لن يحجمها عن العمل على وقف التمدّد الإيراني في سوريا خاصة، وفي المنطقة عموما؛ وستساعدها في ذلك، وفق دراسة مركز عمران، دول الجوار والحلفاء، من خلال:
* رفع درجة التنسيق والتعاون اللوجستي في الجبهتين الشمالية والجنوبية: ويتضمّن ذلك توحيد الدعم المخصص لقوى المقاومة الشعبية وخفض حالة الاستقطاب التي سادت المشهد العسكري طيلة الأعوام الثلاثة الماضية. وسيترجم ذلك بسط سيطرة المعارضة في الشمال والقضاء على جيوب القوى الموالية لنظام دمشق، ومن ثم ضرب المناطق الحساسة للنظام فيما بقي من أماكن سيطرته في الشمال.
* دعم المعارضة السورية السياسة ورفع درجة جاهزيتها وتوسيع هامش تحرّكها بما يخدم تحقيق اتفاق سياسي وفق بيان جنيف. ويتوجّب على كل الأطراف الإقليمية المعنية في هذا السياق الاتفاق على شكل النظام المستقبلي في سوريا وقطع الشكّ باليقين فيما يتعلّق بدور نظام الأسد وأركانه في المرحلة الانتقالية.
* الاتفاق على إستراتيجية موحدة لمحاربة التنظيمات الجهادية العابرة للحدود. ورغم أنه ليس هناك خلاف بين الدول العربية والأطراف الإقليمية والقوى السورية على خطورة هذه المجموعات، فليس واضحا بعد ما هي الطريقة المثلى للتصدّي لهذه الجماعات على الصعيدين الأيديولوجي والميداني. وبالإضافة إلى هذه الجماعات هناك خطر آخر لجماعات لا تقلّ أهمية، وهي الميليشيات الشيعية التي تعمل لحساب إيران والتي تعتبر محفّزا قويا لنظيراتها التي تحسب على السنّة.
وفي ظلّ هذه الظروف يعوّل على القيادة السعودية للقيام بإجراءات على المستوى الخارجي تقوم على إعادة توليف علاقتها بأميركا وخلق هوامش حركة أوسع بما يخدم مصالح دول المنطقة، ويؤسس لبيئة ومناخ يشجّعان على تشكيل استراتيجية سياسية وأمنية مشتركة فاعلة وطويلة المدى.
العربArray