السؤال الثاني الذي طرحته أحداث الثورة السورية عام 2011 – بعد السؤال الأول المتعلق بالموقف من «سورية الأسد» – كان عن دور المثقفين ومكانهم في خارطة الحراك.
بدا السؤال آنذاك في غاية التعقيد، مضمخاً بآثار تسطيح الثقافة وتسييس مفرزاتها على مدى عقود أربعة. ارتكز الموقف الشعبي المبدئي على مطالبة المثقفين بمناصرة الحراك انتصاراً لقيم الحرية والعدالة، والذي ما لبث أن وقع ضحية الخلط مع موقف مزاود يطالبهم بمناصرة «شعبوية الحراك» ككل، من دون التطرق إلى إشكالية التمييز بين بعد شعبوي اجتماعي وآخر ثقافي.
أدى القمع الهائل الذي مارسه النظام بحق الثورة، إلى راديكالية مفرطة في مواقفها التي عبرت عنها، بما في ذلك قوائم سوداء طويلة بحق كثر ممن عبروا عن «مخاوف»، وقوائم شرف أخرى تحفل بأسماء من أطلقوا البطاقات البيضاء للحراك ككل، وانغمسوا في تقريع الذات وضرب المقارنة المكرورة بين حذاء أصغر المتظاهرين وأكبر منجز ثقافي. ساهم هذا الخلط الباكر الذي نفذ من مسام الحراك، في تحويل بوصلة الثورة من «الديموقراطية» إلى «ديكتاتورية الأكثرية»، وهو ما ساهم في شكل واضح في تحويل «المظلومية الثورية» لاحقاً إلى «مظلومية سنية».
آنذاك، لم يكن من السهل إعادة نبش التاريخ السوري الحديث لتحديد مفهوم الثقافة المعني بهذا الخطاب، أو هوية المثقفين الذين يطلب منهم دور «رائد». هل تقتصر هذه الشريحة على المزودين بوثائق رسمية تثبت أن ثقافتهم صدرت عن اتحاد الكتاب العرب أو نقابة الفنانين أو المسرح القومي أو المعهد العالي للموسيقى والفنون المسرحية؟ أم تمتد إلى كل شخص مارس أي نشاط ثقافي في أي ناد أو صحيفة أو صفحة من صفحات الشبكات الاجتماعية؟
اجتهد كل على هواه، فلم يتح المجال واسعاً لهذا النوع من النقاش الاستطرادي. اختارت غالبية الشخصيات التي تتداول الشأن الفني أو الإعلامي، تنميط دور «المثقف» في قالب الاستعراض ضمن تظاهرات ووقفات احتجاجية في الداخل أو الخارج تنزّه الحراك عن أي نقيصة بوصفه حراك الشعب كل الشعب، وتحصد كمية ضخمة من التبريكات والمدائح و «اللايكات» جزاء انخراطها في صفوف «الثائرين» وانصهارها في بوتقتهم بإيمان مطلق.
بذلك، أصبح معيار «الوطنية» و «الثورة» مرتبطاً بمدى السباب والشتم الموجّهين إلى البعث ودولته، وانساقت هذه الفئة طوعاً أو كرهاً في وضع الحراك السوري موضع الدفاع منافحة ومدافعة عنه في كل محفل، من يساريين منافحين عن النفس الإسلامي للحراك (الذي بدوره لم يبخل عليهم بكل ذم وتقريع) إلى شخصيات تؤكد مراراً وتكراراً لا طائفية الحراك مستشهدة بتجاربها ومشاركاتها (وهي شهادات سوقت إعلامياً لا لشيء إلا لكون أصحابها منتمين إلى أقلية طائفية بعينها)، إلى وجوه سورية معروفة جرت لاهثة خلف الظهور السياسي، فخلعت عباءة الثقافة والتنوير والرؤية السياسية التي كانت تمارسها في زمن القمع والحصار الفكري، وارتدت بدلاً منها عباءة الائتلاف في «تمثيله الشرعي والوحيد للشعب السوري»، ممارسة دورها المهم في إصدار البيانات والمطالبات والإدانات والتقريع على الشاشات. وإن لم ينفع تقريع النظام والمجتمع الدولي، فإن البعض وجد في تقريع الذات خطاباً آمناً، فاندفعوا يلومون أنفسهم بوصفهم «عاجزين» و «لا يرتقون إلى تضحيات الشعب السوري العظيم».
في ظل هذه الفوضى العارمة التي ساهم النظام في تأسيس أصولها وصيانة محفزاتها، انغمس أصحاب الشأن المدني في مشاريع لا تحصى تنحصر في «إنقاذ ما يمكن إنقاذه» على مستوى شديد الراهنية مقيدين بشروط تمويلية وإدارية شتى. ولم يظهر على السطح مشروع ثقافي سوري بالمعنى العريض، أي بالمعنى غير الشخصي وغير الراهن. تبدد أصحاب الفكر والقلم والإبداع في شرق الأرض ومغربها في صحف ومجلات وشبكات تلفزيونية غير سورية، وانشغل كثير من الروائيين والكتاب في ما يمكن تقديمه عن سورية «لغير السوريين». الروائيون والشعراء في المهجر يسعون إلى ترجمة أعمالهم وكسب جولات متعددة المحطات في أوروبا والعالم، فيما تتجلى غاية كل إعلامي وصحافي في الداخل في عرض مادته أو تقريره على إحدى الشبكات العالمية.
الثقافة السورية تعاني تغريبتها الحقيقية عن السوريين أنفسهم، وتنحاز عما يحتاج السوريون إلى قوله إلى ما يستحب سماعه عند الجمهور «العالمي». إنها وصفة انهيار الثقافة السورية إلى مجرد ثقافة حرب، وهي ثقافة زائلة يمحوها المنتصر لاحقاً.
الحياة اللندنية