سيغرق الأميركيون، وفي غضون ثلاثة أشهر، بمشاغلهم الانتخابية، ولن ينتهوا منها إلا في مثل هذه الأيام من العام المقبل، بعد أن تستقر أحوال سيد البيت الأبيض الجديد ويتسلم ملفاته الداخلية والخارجية ويُشرع في دراستها مع فريقه، وهذا يعني أن لدى الروس سنة كاملة لينشطوا فيها شبه منفردين في ملعب الشرق الأوسط برمته.
وسينعكس هذا الاستحقاق الأميركي الداخلي على العديد من أزمات المنطقة العربية عموما، وعلى الأزمة السورية خصوصا، التي تُعتبر الأكثر استعصاء بين هذه الأزمات. ومن الواضح أن الرئيس الأميركي باراك أوباما قد اتّخذ قراره النهائي بأن يستمر على سياسته الخارجية التي بدأها قبل دورتين انتخابيتين.
ولن يقدم أوباما على أي مغامرة خارجية قد تؤثر على أيامه الأخيرة في البيت الأبيض. وعلى عكسه، يسعى الروس لحسم الأزمة السورية في وجوده لأنهم يدركون أن ما يحصلون عليه اليوم في ظل هذه الإدارة لن يكون متاحا مع أي إدارة مقبلة بغض النظر عن أيديولوجيتها أو سياساتها المرتقبة.
سياسات متناقضة
حملت السياسة الأميركية في سوريا عدّة تناقضات، فقالت واشنطن إنها تدعم مطالب المعارضة لأقصى حد، لكنها لم تطالب الأسد بالتنحي عن الحكم، ولم توجّه له سوى إدانات شفهية لم تصل إلى مستوى التهديد الحقيقي.
تقول بعض الأوساط إن الرئيس أوباما ينتهج سياسة ذكية ومدروسة عبر إدارة الصراع من الخلف، وتدمير العدو لنفسه، فهي بعدم تدخلها في الأزمة السورية بشكل حاسم جعلت كل القوى تصطدم ببعضها وتخسر، فدفع الإيرانيون أموالا طائلة ثمنا لأسلحة للنظام وخسروا الكثير من الضحايا من مستشارين وضباط ومقاتلين. وتورط الروس في مستنقع ستظهر تأثيراته السيئة على المدى المتوسط. وخسر حزب الله مئات المقاتلين وخسر قاعدته اللبنانية والعربية. وخسر الأكراد التعايش المشترك مع السوريين. وجرّدت سوريا من أسلحتها الكيميائية. ودُمّرت ترسانتها الجوية والصاروخية. أي أن الجميع دمروا أنفسهم اقتصاديا وعسكريا وبشريا وسياسيا وحتى تاريخيا بدرجة أو بأخرى، وكل هذا هو نصر للسياسة الأميركية.
على الطرف الآخر، هناك من يرى أن سياسة أوباما الخارجية خسّرت الولايات المتحدة هيبتها الدولية، وأفقدتها الشرق الأوسط الاستراتيجي بالنسبة إليها وجعلتها مصدر عدم ثقة لحلفائها. وبات للروس موطئ قدم صلب في شرق المتوسط. وتمدّد الإيرانيون كأخطبوط يصعب لملمته، واستقوى تنظيم الدولة الإسلامية وبدأ يصدّر نفسه للغرب. وهدد الحل الحربي للنظام السوري بتحول الحرب السورية لمأساة إنسانية دولية، فضلا عن وجود شكوك عالية في صحة تسليم النظام السوري كل أسلحته الكيميائية. وباتت سمعة الولايات المتحدة محل إعادة تقييم.
الحرب الناعمة أم السياسة الرخوة
في ظل هذا التناقض في دراسة موقف الإدارة الأميركية، يبرز سياقان، الأول سعي روسي للضغط على المعارضة السورية بوسائل عسكرية وسياسية للقبول بتمرير حل سياسي مرسوم بالمسطرة الروسية يُبقي على النظام السوري ورأسه ويقبل بتغيير سياسي لا يتجاوز التعديلات والإصلاحات، وهي تسعى جادة في ذلك لأنها تُدرك أن ما يمكن لها تمريره في عهد الرئيس باراك أوباما لا يمكن لها أن تُمرره في عهد الرئيس الأميركي المقبل.
أما السياق الثاني، فهو إصرار أميركي على عدم تغيير الواقع، السياسي أو العسكري، وإبقاء الأزمة السورية تراوح مكانها، مع مراقبة الوضع لعدم السماح بانتصار المعارضة، وعدم السماح بانتصار النظام وحلفائه، من خلال تقنين أو توسيع الدعم الموجه للمعارضة السورية المسلحة لتستطيع الحفاظ على هذا التوازن السلبي، وكل ذلك رغبة من أوباما في إنهاء ولايته الثانية بسلام.
تريد الولايات المتحدة مخرجا قائما على توازن مصالح الأطراف الدولية والإقليمية، حلّ يُفرض على الأطراف السورية ويسمح بإقامة توازن جيوسياسي جديد في الإقليم قائم على دعامتين: دعامة سنية (السعودية) ودعامة شيعية (إيران).
وأمام السوريين مرحلة صعبة، سيحتدم فيها الصراع وترتفع التضحيات والخسائر البشرية والمادية حتى يخرج الدخان الأبيض من البيت الأبيض، مرحلة تنطوي على مخاطر جمة، سياسية واجتماعية واقتصادية، ضحيتها الشعب السوري، الأمر الذي يستدعي من المعارضة السورية البحث بشكل جدّي عن وسائل مُسبقة للتأثير على الإدارة الأميركية القادمة، حتى لا تطول أزمتها.
العرب