«تمركز قناصو النظام السوري فوق بناء المحكمة الاستراتيجي، وخلال معركة التحرير اقتحم الجيش الحر المبنى وسيطر عليه، كان القضاة وموظفو المحكمة الكبار قد غادروا المدينة قبل ذلك بأيام. في اليوم التالي للتحرير، 20 أيلول (سبتمبر) 2012، كان بناء المحكمة في مدينة تل أبيض قد تحوّل مقراً للمجلس العسكري للجيش الحر. لقد كانت المحكمة رمزاً لسلطة النظام، ولم يفكر أحد في إعادة تشغيلها إلا بعد فوات الأوان».
هكذا يصف الصحافي محمود درويش سقوط محكمة مدينته تل أبيض، شمال محافظة الرقة، وهي ذاتها قصة السقوط الفوري والسهل للمؤسسة القضائية السورية في جميع المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، «والحقيقة أن محاكم الدولة كسلطة مستقلّة سقطت منذ عقود، وذلك ما يعرفه كل السوريين».
محاكم بيت الأسد
نصّب الأسد الأب نفسه رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، وهو أعلى سلطة قضائية في سورية، كما كان يعيّن أربعة من أصل أعضاء المجلس الستة المتبقّين. ذلك ما ورثه الابن ضمن ما ورثه من ألقاب، كالقاضي الأول والرياضي الأول والسمكري الأول.
ما سبق مؤشر الى درجة تغلغل النظام في جسم الدولة السورية حتى تماهى معها. حول ذلك يروي القاضي المنشق أنور مجني، رئيس مجلس القضاء السوري الحر المستقل، «أن تحطيم المؤسسة القضائية السورية بدأ بإعلان حالة الطوارئ عقب انقلاب حزب البعث عام 1963، وازداد مع تكاثر المحاكم والقوانين الاستثنائية بعد استيلاء حافظ الأسد على السلطة مطلع السبعينات.
في الثمانينات، كسر النظام الجناح الثاني للعدالة حين أحكم قبضته على نقابة المحامين ليفتح الباب بعدها لإفساد المؤسسة القضائية بمختلف أجهزتها». من ناحية أخرى، حصّن النظام عناصر أجهزته الأمنية ضد الملاحقة، وأخرج معتقلاتها عن سلطة القضاء، فباتت تلك الأجهزة حرة في أن تحيل إليه من تشاء وتحجب من تشاء. هكذا فقد السوريون أي ثقة بمؤسستهم القضائية المكبّلة والفاسدة، وحين تحررت المناطق من سلطة النظام كان التخلّص من «محاكم بيت الأسد» بالنسبة الى كثر منهم أمراً مفروغاً منه. أما ترسانة القوانين السورية الرصينة التي لم ينل السوريون شيئاً من عدلها، فقد سُحقت مع جهود كل من حاول إعادة تشغيلها.
الخريطة القضائيّة الجديدة
لا تختلف الخارطة القضائية المتشكّلة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، كثيراً عن خارطة السيطرة والنفوذ للفصائل المسلّحة، لكن القضائية أكثر تداخلاً وتعقيداً، وتعكس وجهاً من الصراع السياسي والأيديولوجي المتصاعد في تلك المناطق. السلطات القضائية تتوزعها اليوم محاكم مختلفة في مرجعياتها الفكرية وقواها التنفيذية ومناطق نفوذها، وأي منها لا يحكم بالقانون السوري. كما توجد أكثر من جهة قضائية متنافسة في معظم المناطق. وعلى رغم صعوبة إجمال كل الجهات القضائية القائمة ضمن تصنـيف بسيط، يمكننا التركيز على:
مجلس القضاء الأعلى وباقي محاكم حلب. تأسّس مجلس القضاء الأعلى في حلب منتصف 2015، بتوحّد سبع محاكم في المدينة وريفها. المجلس تبنى «القانون العربي الموحد» كقانون إسلامي يوافق نهجه في تقنين الشريعة، وغرفه القضائية تتكون من قاضيين شرعيين مقابل قاضٍ حقوقي، كما وقع أخيراً ميثاق تنظيم عمل المحامين مع هيئة محامي حلب الأحرار. يعتمد المجلس على الشرطة الحرة وفصائل الجيش الحر كقوة تنفيذية، ومن أهم الفصائل التي تدعمه «تجمع فاستقم كما أمرت حركة نور الدين الزنكي». في حلب أيضاً، توجد المحكمة الشرعية التي بقيت مستقلة عن المجلس الأعلى، مستندة إلى علاقاتها الجيدة مع الجبهة الشامية، كذلك لم تنضم محكمة السكري التابعة لأحرار الشام الى المجلس.
محاكم الهيئة الإسلامية لإدارة المناطق المحررة: يبلغ عددها إحدى عشرة محكمة تنتشر في محافظة إدلب وجزء من ريف حماة، تتبع للهيئة الإسلامية لإدارة المناطق المحررة التي تأسست في 2013، باتفاق فصائل إسلامية سورية وبدور مؤثر لحركة أحرار الشام. تتبنى محاكم الهيئة تطبيق الشريعة الإسلامية في محاكمها، وتعتمد «مجلة الأحكام العدلية» التي صدرت في القرن التاسع عشر، زمن السلطنة العثمانية، وتعد أول وأهم محاولة لتقنين الشريعة الإسلامية. محاكم الهيئة تتخذ قوتها التنفيذية من الفصائل الموقعة على ميثاقها، كما تتعامل مع الشرطة الحرة.
مجلس القضاء في الغوطة الشرقية: تشكّل منتصف 2014 بتفويض معظم فصائل غوطة دمشق، «كجيش الإسلام وفيلق الرحمن والاتحاد الإسلامي لأجناد الشام»، إضافة الى «جبهة النصرة» التي انسحبت بعد شهر تقريباً. نصّ التفويض على استقلالية المجلس كسلطة قضائية لا تتدخل في شؤون الحكم والسياسة، بينما تلتزم الفصائل تقديم الدعم البشري والمادي للمحكمة وتمتنع عن أي تدخل في شؤونها. تتبع للمجلس أربع محاكم تغطي مدن الغوطة الشرقية المحاصرة بريف دمشق وبلداتها، وتعتمد الشرطة الحرة كقوة تنفيذية.
دار العدل في حوران – محاكم درعا: هي السلطة القضائية الأقوى في مناطق درعا والقنيطرة المحررة، تأسست أواسط 2014 باتحاد ثلاث محاكم، بينها محكمة لـ «جبهة النصرة»، قبل أن تنسحب أخيراً عقب اعتماد الدار القانون العربي الموحد كناظم لأصول المحاكمات.
تعتمد المحكمة على فصائل الجبهة الجنوبية التابعة للجيش الحر كقوة تنفيذية، وتسري أحكامها على أراضي درعا والقنيطرة الخارجة عن سيطرة النظام، باستثناء مناطق سيطرة لواء اليرموك المبايع لتنظيم «داعش» ومناطق صغيرة تسيطر عليها حركة المثنى الإسلامية. أخيراً، اغتيل رئيس دار القضاء وأحد مؤسسيها الشيخ أسامة اليتيم، ضمن سلسلة الاغتيالات التي طاولت قادة الجنوب.
المحكمة العليا في ريف حمص الشمالي: تضمّ محاكم الرستن، تلبيسة، الزعفرانة والحولة، وهي أهم المدن المحررة في المحافظة. تعتمد تلك المحاكم على الشرطة الحرة والقوة التنفيذية للفصائل الموقعة على ميثاق المحكمة العليا، كفيلق حمص وحركة أحرار الشام وآخرين، وكغيرها من المحاكم الإسلامية السورية، لا تطبق محاكم حمص العقوبات الجسدية كالجلد وغيره، بل تكتفي بالتعزير وفق المفهوم الإسلامي للعقوبات. في أيلول من العام الماضي، اغتيل اثنان من مؤسسي المحكمة العليا، كما تعرّض آخرون لمحاولات مماثلة. أما العلاقة بين المحكمة العليا وجبهة النصرة التي زاد نفوذها في ريف حمص خلال العام الماضي، فتبدو ملتبسة بعض الشيء، فالنصرة من الفصائل الداعمة للمحكمة نظرياً لكنها نفذت عمليات أمنية من دون تفويض من المحكمة، ما دفع الأخيرة إلى إصدار بيان ينفي مسؤولية المحكمة عن إحدى العمليات.
محاكم الإدارة الذاتية الكردية: عددها 19 محكمة وتسمى «محاكم الشعب»، ظهرت بدايات 2013 وتسود في مناطق سيطرة الوحدات الكردية وحلفائها في الحسكة وريفها كما المناطق الكردية في ريف حلب، وحديثاً في ريف الرقة الشمالي.
تتبع لمجلس القضاء الأعلى في الإدارة الذاتية، وجهازها التنفيذي يتمثّل في قوات الأسايش «أي الشرطة بالكردية»، وتعتمد هذه المحاكم خلافاً للمحاكم الإسلامية، على العرف الاجتماعي في المجتمعات المحلية كمصدر رئيسي للأحكام، وبالتوافق مع ذلك تشرك الوجوه الاجتماعية في محاكمها كقضاة ومحلفين إلى جانب الحقوقيين، كما تعتمد مجموعة من التشريعات التي أقرتها الإدارة الذاتية منذ تأسيسها بقيادة حزب الاتحاد الديموقراطي نهاية 2013، إضافة الى نصوص من القانون السوري في حالات محدودة.
محاكم جبهة النصرة: لعبت النصرة بإرثها الشرعي، دوراً أساسياً في تشكّل معظم الهيئات القضائية الأولى في المناطق المحررة بالاتفاق مع الفصائل السورية، لكن سرعان ما كانت تنسحب من تلك الاتفاقات لتؤسس محاكمها الخاصة إن لم تلقَ معارضة قوية من تلك الفصائل، حدث ذلك في إدلب وحلب واللاذقية، بينما عجزت الجبهة عن إنشاء محاكمها في ريف دمشق ودرعا. تنتشر اليوم محاكم النصرة المسماة «دور العدل»، في ريف إدلب خمس محاكم، ومحكمة واحدة في أرياف كلّ من حلب، حمص واللاذقية. غالبية القضاة وعناصر القوى التنفيذية لدور العدل من المنتمين الى الجبهة سوريين أو جهاديين أجانب، وتُعرف هذه المحاكم بتشدّدها في الأحكام وتطبيق العقوبات الجسدية وفق «الشريعة التي لا يجوز تدوينها». كما تمتاز بقدرتها التنفيذية العالية والمستندة إلى قوة منظمة من العناصر تسمى الشرطة الإسلامية في مناطق، وفي مناطق أخرى تُعرف بالحسبة.
محاكم «داعش»: لا نعرف بالضبط عدد المحاكم التي أقامها تنظيم «الدولة الإسلامي»ة في سورية، والتي تتبع ديوان العدل والمظالم في دولته المزعومة، لكن يرجح أنها الأكثر عدداً بالنظر الى المساحات التي يسيطر عليها التنظيم في الرقة ودير الزور وأجزاء من أرياف الحسكة وحمص ودمشق. معظم قضاة «داعش» من الأجانب، ومحاكمه نفذت أبشع الجرائم في حق السوريين، فأعدمت آلافاً منهم ذبحاً وصلباً أو رمياً من شاهق منذ 2014. بالنسبة الى «داعش» كما غيره من التنظيمات المؤدلجة التي جاءت بنظمها القضائية الخاصة، لم يكن القضاء سوى أداة لمزيد من الهيمنة على المجتمع ضمن مشاريعها المتضاربة على الأرض السورية.
محاكم أكثر عدلاً
لم تطل إقامة المجلس العسكري للجيش الحر في بناء محكمة تل أبيض كثيراً، فالجيش الحر الذي لم يملك مطامع في القضاء كان أبطأ في تقديم البديل من غيره. بعد شهرين من التحرير نهاية 2012، أسس سلفيون الهيئة الشرعية في تل أبيض، ونالت تفويض الفصائل بما فيها جبهة النصرة، لتقضي في النزاعات المدنية والعسكرية وفق الشريعة الإسلامية. ولاحقاً، أنشأت جبهة النصرة محكمتها الخاصة جوار المدينة. لكن سكان تل أبيض العشرين ألفاً لم يكادوا يختبرون عدل محاكمهم الجديدة حتى اجتاح «داعش» المشهد في آب (أغسطس) 2013، وخضعت تل أبيض لمحاكم دولة الخلافة المرعبة.
اليوم، تتبع تل أبيض لسلطة الإدارة الذاتية الكردية ومحاكم الشعب التي أنشأتها الإدارة، وهي السلطة القضائية الخامسة التي تعتلي المدينة خلال ثلاث سنوات وبضعة أشهر، عاشت خلالها تل أبيض ثلاث موجات نزوح جماعي على الأقل لم يرجع بعدها سوى نصف السكان. إلى هنا تبدو محاكم الدولة السورية الجديدة التي حلم بها القاضي أنور مجني زملاؤه القضاة حين انشقاقهم عن النظام بعيدة، لا قضاء من دون دولة يقول مجني:
«لقد قدمنا مبادرات متعددة إلى الائتلاف لتأسيس مرجعية قضائية وطنية موحدة تعتمد القانون السوري، لكن أياً من دعواتنا لم تلقَ استجابة بسبب رفض القوى الإسلامية داخل الائتلاف، والمهتمة أكثر بتكريس تجربة المحاكم الإسلامية». أكثر من ستين محكمة تقضي اليوم في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، أي منها لم يحقق بعد قاعدة «لا عقوبة من دون نص»، لكن ثمة تجارب تنضج، ومسألة القضاء في سورية لا تفهم خارج سياق الصراع الفكري والسياسي العسكري الذي تتشاركه قوى إقليمية وداخلية.
الحياة