د. سمير صالحة – العربي الجديد
في أعقاب اللقاء المطول الذي جمع، في أنقرة، رئيس هيئة الأركان التركي، خلوصي أكار، ونظيره الأميركي، جوزيف دانفورد، وهو الاجتماع الثاني بينهما في أقل من شهر، اكتفت القيادات السياسة التركية بإعلان إبلاغها الضيف الأميركي بخطورة التنسيق الحاصل بين إدارته وحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) المصنّف إرهابياً في تركيا.
لكن التفاصيل حول طبيعة التفاهم الثنائي بعد أربع ساعات ونصف من المفاوضات، كشف عنها دانفورد، وأوجزها بما يلي:
تعزيز التنسيق القائم بين تركيا والتحالف الدولي على المدى الطويل، بهدف القضاء على تنظيم داعش في مدينة الرقة. تأكيد أن قوات تحرير الرقة يجب أن تكون من العرب السنّة، وليس من الأكراد، وأن الطرفين توصلا إلى قناعةٍ بشأن العمل المتواصل باتجاه إيجاد المكون الصحيح من القوات لعملية عملية تحرير الرقة. الاتفاق على أن لا تكون قوات سورية الديمقراطية التي تشكل الوحدات الكردية غالبيتها هي التي تدخل مدينة الرقة في الهجوم النهائي، وأن “قوات سورية الديمقراطية” لن تتدخل في إدارة شؤون المدينة.
وقال دانفورد إنّ زيارته أنقرة كانت مثمرة وبنّاءة، وأنه اتفق مع الأتراك على كيفية تخليص الرقة من داعش، وطريقة إدارة هذه المحافظة، على المدى البعيد، عقب تحريرها، لكن الجانب التركي يتعامل بحذر في الحديث عن التفاهم الذي تم، تحسباً لارتكاب أي خطأ، قد يحسب عليه في موقفه حيال حزب الاتحاد الديمقراطي، وسياسته السورية، خصوصاً وهو يستمع إلى الناطق باسم “قوات سورية الديموقراطية”، طلال سلو، يقول إنهم اتفقوا، بشكل نهائي، مع التحالف الدولي، على عدم وجود أي دور لتركيا، أو للفصائل المسلحة المتعاونة معها، في عملية تحرير الرقة.
الواضح، على ضوء المواقف الأميركية أخيراً، أن تركيا حصلت على ما تريد من ضماناتٍ أميركية، تطلق يدها في شمال سورية، لإكمال عملية درع الفرات، وقطع الطريق على محاولة الربط بين جرابلس وعفرين، في اتجاه دمج الكانتونات الكردية ببعضها. كما أنها (تركيا) حسمت، كما تشاء، مسألة دخول الجيش السوري الحر إلى منبج، وإعادة مقاتلي الحزب الديموقراطي الكردي إلى شرق نهر الفرات. وحصلت على الضوء الأخضر الأميركي، لتسريع عملية إخراج قوات “داعش” من مدينة الباب. والمضي في خطة وضع أسس المنطقة الآمنة، وتسهيل عودة اللاجئين السوريين إلى أراضيهم.
ويقول وزير الخارجية التركي، مولود شاووش أوغلو، إن إرسال قوات حزب الاتحاد الديمقراطي إلى الرقة، وهي التي لا تستمع إلى ما تقوله واشنطن في موضوع انسحابها من منبج، يفتح الطريق أمام أزمة أكبر في العلاقات التركية الأميركية، إذ لا تلتزم الوحدات الكردية، شريكة واشنطن وحليفتها، لا تلتزم بتعهداتها أمام الإدارة الأميركية نفسها، عندما ترى أنقرة أن ما تقوله الولايات المتحدة يعرقل مشروعها وخططها في شمال سورية. فأي نوع من التفاهمات هو؟ هل هو اتفاق خطي، أم شفهي محمي بوعود شخصية متبادلة بين القيادات العسكرية، ولا يلزم القيادات السياسية في البلدين، خصوصاً وأن أميركا تناقش المرحلة الانتقالية السياسية والدستورية الجديدة، ولا يمكن لإدارة أوباما أن تدخل في اتفاقية من هذا النوع قبيل المغادرة.
حلم أنصار المشروع الكردي في شمال سورية ممن ما زالوا يصفون أنفسهم بأنهم قوميون عرب دفعهم إلى الوقوف بارتباك أمام اللقاء العسكري التركي ـ الأميركي المطول الذي “أثار الفضول”، حول ما إذا كان الأميركيون يُخطّطون لصفقةٍ، بخصوص تسهيل الوصول التركي إلى مدينة الباب، في مقابل “تمهيد الطريق أمام الوحدات الكردية للوصول إلى الرقة”، مراهنين على أن من غير المستبعد أن يأتي دور الجيش السوري في إحدى هاتين المرحلتين، لدخول الرقة. فجاءهم الجواب من قائد الأركان الأميركي الذي قال إن تركيا عند موقفها في رفض أي دور لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، وتعترض على المشاركة في أية عملية يكون الحزب جزءاً منها. وإن أنقرة التي تحولت، مع انطلاق عمليتها العسكرية في شمال سورية، إلى مناور أساسي هناك، لم تقدم لحليفها الأميركي أية ضمانات يريدها، في إطار تنسيق ثنائي، تنضم إليه القوات الكردية لإطلاق عملية طرد داعش من الرقة.
يبدو أن التفاهم التركي الأميركي الأهم كان حول موضوع البحث عن قيادة قوات عربية سنية، تقود معركة الدخول إلى الرقة، تطرح معها سيناريو قديماً جديداً، وهو فتح الطريق أمام قوات “الجيش السوري الحر” للدخول إلى المدينة، بدعم ورعاية أميركيتين، ما يعني تضييقَ الخناق على قوات صالح مسلم (زعيم الاتحاد الديمقراطي)، ومحاصرته سياسياً وجغرافياً، أكثر فأكثر عبر الجنوب هذه المرّة، فهل تَستسلم الإدارة الأميركية لسيناريو تدمير حليفها المحلي الوحيد في سورية الذي جهّزته لدورٍ كبير هناك؟
لا يمكن تجاهل بعض الحقائق على هامش الاتفاق بين أكار ودانفورد أيضاً: مسألة إطلاق يد الجيش السوري الحرّ في الرقة، وإيصاله إليها بعد معركة الباب تحتاج إلى اصطفاف واسع للمعارضة السورية في الداخل والخارج وراءه، واللاعب الأول المعني هو الجيش الحر نفسه، المطالب بالتحرّك نحو صناعة المشهد السياسي والعسكري الجديد في سورية. كشف نجاح عملية درع الفرات وتقدمها اليومي نحو الباب عن فشل الطرح الأميركي أنّ قوات حماية الشعب الكردية هي الوحيدة التي تقاتل “داعش”، وأنها بمفردها القادرة على دحره. و”داعش” ستقاتل في الرقة (إذا ما قرّرت القتال)، ليس من أجل الانتصار والبقاء في المدينة، بل من أجل تأجيج الخلافات بين القوى والأطراف المحلية والإقليمية.
ويقول وزير الدفاع التركي، فكري إيشيق، إنّ جيش بلاده سيتقدم إلى كلّ مكان ضروري لحماية الأمن التركي. تركيا تواصل حشد مئات من القطع الحربية الثقيلة على حدودها مع سورية والعراق، لأنها تعرف أن الحرب المعلنة ضد داعش قد تتحوّل إلى مواجهات عرقية دينية، تهدد الديمغرافيا والجغرافيا، ليس في البلدين فقط، بل داخل تركيا نفسها التي تقول إنّها أفشلت مشروع صالح مسلم في شمال سورية، لكنه لا يزال يساوم بعضهم على دمج نفط شمال سورية بشمال العراق، بعد توجيه الضربة القاضية لرئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، والعمل على حماية مشروع الفدراليات، ليكون لأكراد المنطقة حصتهم فيها.
ستبقى مشكلة تركيا الأهم في محاولة مفاوضة واشنطن وموسكو في الوقت نفسه على ملفات إقليمية كثيرة، قد تنعكس عليها، وتتركها خارج المعادلات، إذا ما أخطأت في التقدير والمخاطرة. لكن، يبدو أن الرئيس التركي قبل المغامرة والتحدي والإصغاء إلى ما تقوله موسكو أيضاً التي قدمت أكثر من خدمة للأتراك في الآونة الأخيرة. وكان رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، قد دعا إلى عدم الاستغراب إن حصلت تطوّرات مهمة في الأزمة السورية في الأشهر الستة المقبلة. وكان كلام يلدريم قبل زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، روسيا ولقائه نظيره فلاديمير بوتين، ومناقشة الأزمة السورية معه. وفيما تحدث يلدريم عن مفاجأة محتمَلة في سورية، فإن القوات الكردية تواصل، بالتنسيق مع الإدارة الأميركية، السيطرة على مزيد من الأراضي شرقاً وشمالاً، فأيّ مشروعٍ سيفوز، بعدما تعثّر التفاهم الأميركي الروسي في سورية؟