في التكهن حول قسمات السياسة الخارجية المقبلة للرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، قد يقع المرء في إغواء الانطلاق من سلسلة تصريحاته خلال الحملة الانتخابية؛ والأرجح أنّ هذه الرياضة لن تكون حكيمة، ولعلها ستفتقر إلى الكثير من الصواب، ولن توفّر إجابات شافية. فالرجل، بادئ ذي بدء، لم يفصح عن الكثير في هذا الملفّ، واكتفى بالخلاصات المبتسرة الهزيلة، التي ظلت تتوخى الاجتذاب الشعبوي فلا تخدش السطح أو تذهب إلى أي مستوى من العمق والرصانة.
على سبيل المثال الأول، أعلن ترامب أنّ من حقّ الولايات المتحدة الذهاب مجدداً إلى العراق، والاستيلاء على النفط العراقي، هكذا مباشرة وببساطة: «لقد أنفقنا هناك ثلاثة ترليونات، وخسرنا آلاف الأرواح، وحدث بعدئذ أننا لم نحصل على شيء. تعلمون أنّ العادة جرت على استئثار المنتصر بالغنائم»؛ ولهذا، عند الاستيلاء على النفط العراقي: «أنت لا تسرق شيئاً، بل نحن نعوّض خسائرنا، في الحدود الدنيا. وأنا أقول أكثر: نحن نستعيد 1,5 ترليون لتعويض أنفسنا». فهل يُنتظَر منه، حقاً، أن يرسل جيوش أمريكا وأساطيلها وقاذفاتها وصواريخها… لاحتلال العراق مجدداً، ومصادرة نفطه؟
المثال الثاني من سوريا، حيث تراوحت تصريحاته بين مباركة حرب روسيا على «داعش»، وهذه خلاصة زائفة بالطبع، إذْ العكس هو الصحيح؛ وانتقاد سياسة أوباما، بصفة إجمالية، دون تقديم البديل؛ والتشديد على أنه سوف يضرب «داعش» بأشدّ مما فعل أوباما، دون ربط هذا بإصرار على إسقاط نظام بشار الأسد، الأمر الذي لا يسير البتة على نقيض خيارات أوباما! لكنه أعلن، ذات مرّة، أنّ على دول الخليج أن تستخدم أموالها «لحيازة مساحة شاسعة من الأرض في سوريا، فتقيم عليها منطقة آمنة للناس»؛ فهل يمكن لهذا الاقتراح أن يُحمل على محمل الجدّ، حقاً؟
الأرجح، حتى تتضح الخيارات على نحو ملموس، مرتكز على حدود كافية من منطق الانسجام مع ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية (تلك التي لا يُحاد عنها إلا في النادر الاستثنائي، وأياً كانت هوية الرئيس الحزبية، أو ميوله وعقائده)؛ من الآمن الافتراض أنّ سياسة ترامب في سوريا لن تخالف جوهرياً تلك التي اعتمدها أوباما منذ انطلاق الانتفاضة الشعبية في سوريا، ربيع 2011. وبالأمس فقط، في أوّل حديث شامل له بعد انتخابه، نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال»؛ لم يفصح ترامب عن جديد واضح في السياسة الخارجية (وأبدى، في المقابل، تراجعاً عن تعهدات داخلية قاطعة: إلغاء برنامج أوباما حول الرعاية الصحية، أو تعيين محقق فدرالي خاصّ حول رسائل هيلاري كلنتون الإلكترونية…). الواضح، حتى الساعة، أنه لا يريد الاصطدام مع روسيا في سوريا (كأنّ أوباما اصطدم مع موسكو أصلاً!)؛ ولكنه سيعيد النظر في الاتفاق النووي مع إيران (الأمر الذي سيُلزمه بالاصطدام مع طهران في سوريا!).
في المقابل، كان أحد أقرب مستشاري ترامب في الأمن، الجنرال المتقاعد مايكل فلاين، قد أعلن أنّ إدارة أوباما «لم تفهم تركيا بالشكل الكافي، وبالتالي لابد من إعادة تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية بشكل يجعل تركيا ضمن الأولويات»؛ بل ذهب إلى حدّ التأكيد على ضرورة أن تتوقف الولايات المتحدة عن إيواء فتح الله غولن، معتبراً أنّ تركيا «تنظر للأمر كما لو أن الولايات المتحدة تأوي أسامة بن لادن»!
وبهذا قد تكون عملية «درع الفرات»، التي سكتت عنها موسكو وقبلت بها واشنطن بعد تمنّع، هي نموذج التدخّل الذي ينسجم مع «عقيدة ترامب»، حتى بمعنى تقريب الهوة بين أمريكا وتركيا؛ وإذا صحّ احتمال كهذا، فإنّ اللاعب الأبرز في سوريا ما بعد ترامب، قد يكون… رجب طيب أردوغان!
القدس العربي – صبحي حديدي