نصب عدد كبير من المتابعين لمسار الحملات الانتخابية الأمريكية تركيزه على تصريحات ترامب “غير العقلانية” ـ حسب وصفهم ـ وانقسم المتابعون في تقييم السياسة الخارجية الأمريكية إلى قسمين؛ أحدهما يحجم بشكل كبير من أي تأثير لمنصب الرئيس الأمريكي في تغيير ملامح السياسة الخارجية الأمريكية والآخر يبالغ في تقييم تصريحات ترامب على أنها خطيرة توحي بسياسات أمريكية خطيرة سينتهجها ترامب حيال القضايا العالقة في المنطقة.
لقد اتسم عصر الرئيس المنتهية ولاياته “باراك أوباما” بالغموض الشديد والتغيّر المتموج اللذين أعجزا الدول الأخرى عن تحديد مسار سياسي معين يمكنهم من التعاون مع الولايات المتحدة في نطاق تحقيق المصالح المشتركة، فبينما دعمت إدارته ثورات الربيع العربي في بداية انطلاقها، انكفأت عن دعمها وأخذت تدعم الثورات المضادة كما ظهر في مصر، وتراجعت عن مطالبتها للأسد في الرحيل واكتفت بالتلويح بحل تفاوضي ينهي الأزمة السورية بأقل الخسائر للدول الفاعلة، وحمل ذلك في طياته رغبتها في إنهاء الأزمة السورية بإبقاء نظام الأسد ودعم بقاء سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على المناطق التي تسيطر عليها، لا سيما وأنها باتت تحتضن هذه المناطق قواعد عسكرية أمريكية.
وعلى الأرجح تراجعت الولايات المتحدة عن دعم ثورات الربيع العربي نتيجة لحصولها على موطئ قدم في سوريا التي لطالما حُرمت من العلاقات الجيدة مع نظامها، وتنامي المخاطر التي قد تهدد أمن إسرائيل وبالأخص بعد سيطرة الحركة السلفية على مسار الثورة السورية، واتفاقها النووي مع إيران الذي أرادت من خلاله تبديد التكتل الروسي الصيني الإيراني وبالتالي إرجاح الكفة في سوريا والمنطقة عموماً لصالحها وغيرها من العوامل التي قد تكون اقنعت الإدارة الأمريكية لتغيير مسار سياستها الخارجية، ولكن لا شك في أن هذا التغيّر عمق من حدة الأزمات الناشطة في المنطقة وبالأخص الأزمة السورية التي تشكل النقطة الأساسية لتأسيس ميزان القوى الجديد في المنطقة.
إذًا أمام الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة ترامب أزمة على وشك تحديد الوجه الجديد لجغرافية وميزان قوى منطقة الشرق الأوسط، فما هي الملامح الجديدة التي قد تشكل نقاط ارتكاز أساسية لإدارة ترامب تجاه الأزمة السورية، وما هو الوقع التأثيري لهذه الملامح على المصالح التركية؟
لرصد الملامح الجديدة لا بد من توضيح آلية اتخاذ القرار الأمريكي والنظريات السياسية الأكثر تأثيرًا في رسم السياسة الخارجية الأمريكية.
آلية اتخاذ القرار الأمريكي
آلية اتخاذ القرار الأمريكي من ناحية نظرية ليست بالمعقدة بل سلسة تقوم على التعاون بين الرئيس وبين الكونغرس، وفي هذا النظام لا يمكن إنكار أن سلطة الكونغرس أعلى من سلطة الرئيس، إلا أن الأخير يملك عددًا من الصلاحيات التي يستطيع تنفيذها فيما يتعلق بمسار السياسة الخارجية دون الرجوع إلى الكونغرس، ويشمل ذلك جميع المواضيع باستثناء إبرام المعاهدات وإعلان الحرب.
وهنا يظهر أن ترامب الذي يُريد تعجيل محاربة داعش في إطار التحالف الدولي، الذي تم تأسيسه في عهد أوباما وتم أصلًا الحصول على موافقة الكونغرس من أجل تأسيسه، ويرغب في رفع مستوى التحالف مع روسيا وتركيا من أجل حل الأزمات السورية والعراقية والأوكرانية وغيرها قد يستطيع تحقيق جزء من هذه السياسات، لا سيما أن غالبية الكونغرس في الفترة الحالية من الحزب الجمهوري، ولكن تبقى بعض العوائق التي قد تكبح ترامب عن تنفيذ كل ما يرغب، حيث أن هناك بعض النقاط التي تؤثر على آلية اتخاذ القرار الأمريكي مثل:
ـ الحزب: انتُخب ترامب رئيسًا كممثل للحزب الجمهوري الذي يتسم بالتشدد لرؤية “القطب الأمريكي المنفرد في كفتي ميزان القوى” الذي لا تقف أمامه أي قوة أخرى، فرغبة ترامب في التقرب من روسيا من أجل حل الأزمات العالقة قد تجد معارضةً شديدة من قبل حزبه، وقد يستطيع تحديد بعض نقاط التقارب من روسيا ولكن ذلك ربما لا يعني التحالف في حل الأزمات العالقة وعلى رأسها الأزمة السورية، فإدارة جورج بوش الابن كانت متقاربة من روسيا، ولكن لم يُظهر ذلك توافق بين الطرفين في حل الأزمات العالقة، فقد يرى الجمهوري التحالف الأمريكي الروسي نقطة إيجابية في صالح تمادي القوة الروسية، وتلك نقطة لا يمكن الحديث عن إمكانية قبولها من قبله.
ـ الهرم البيروقراطي المساعد للرئيس: ويتكون من مجلس الأمن القومي ووكالة المخابرات المركزية ووزارة الدفاع ووزارة الخارجية. وبالنظر إلى هذه المؤسسات الأمنية البحتة يظهر للسطح سبب التأثير الضخم للنظرية الواقعية الأمنية التي تدفع الدول إلى حماية مصالحها القومية باستخدام شتى الوسائل الجيدة والسيئة بعيدًا عن المبادئ الثابتة، ولا يُعقل أن هذه المؤسسات الاستشارية المعتمدة على معطيات ومعلومات استخباراتية ميدانية لا تشكل تأثيرًا واضحًا على مسار سياسة ترامب، وفي ضوء ذلك يظهر ما يسمى “حكم المؤسسات”، حيث تلعب هذه المؤسسات دورًا كبيرًا في توجيه الإدارة الأمريكية، ورغبات ترامب في التقرب من تركيا وحل الأزمة السورية من خلال الانعزال عن المنطقة وغيرها لا تلائم تطلعات هذه المؤسسات التي قد ترى أن هذه الرغبات ستزيد من إضعاف السيطرة الأمريكية على المنطقة والمناطق الأخرى، الأمر الذي يمنح الفرصة لدول أخرى وجماعات لا ترغب بها أمريكا، كونها قد تؤثر على نفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي، وتؤثر على الوجود الإسرائيلي في المنطقة.
ـ جماعات المصالح: بالرغم من السياسة الواقعية الأمنية للولايات المتحدة، إلا أنها تبقى دولة ليبرالية ديمقراطية يؤثر في عملية اتخاذ قرارها، وفقًا للدستور، جماعات المصالح التي تدعم الحملات الانتخابية للرئيس وأعضاء الكونغرس وتسيطر بشكل أو بأخر على السوق المالية الاقتصادية الأمريكية، ولتلك الجماعات التي تعني “اللوبي” تأثيرها الواضح في قرارات السياسة الخارجية، ولتقييم مدى تأثير هذه الجماعات على قرار ترامب في السياسة الخارجية لا بد من النظر إلى مصلحة إسرائيل التي لا ترغب في تقسيم سوريا ومصلحة شركات الأمن والأسلحة التي ترغب في ذلك أيضًا، وعلى الأرجح سيظهر تأثير واضح لهذه الجماعات على ترامب الذي قد يضطر لمسايرتها في الاستمرار بالتفاوض مع القوى الفاعلة لاستئناف ما كان عليه أوباما.
في الختام يتضح من السرد التحليلي أعلاه أن تصريحات ترامب الانتخابية قد تبقى مجرد خطابات رنانة ساهمت في إقناع الناخب به، أما تطبيقها على أرض الواقع فيبدو أمرًا صعبًا، ولكن قد يكون تطبيق بعضها ممكنًا فالأمر متعلق أيضًا بقوة شخصية الرئيس، بمعنى إذا كان لترامب شخصية كاريزمية مؤثرة على نواب الكونغرس فقد يكون له نصيب أكبر في تطبيق ما يصبو إليه، وللزمن دوره في إظهار من الأقوى هو أم الكونغرس؟
جلال سلمي – خاص ترك برس