تكشف ثلاثة تصريحات لثلاثة مسؤولين إسرائيليين رسميين، صدرت كلها مساء الأحد، بوادر تحوّل جوهري في الموقف الإسرائيلي المعلن (ليس بالضرورة الفعلي) تجاه الثورة السورية. تصريحات تعكس انتقالاً من التشدق بموقف المتفرج والحياد الذي لا يتدخل بالشأن السوري، لصالح موقف أكثر فاعلية.
موقف يتغذّى على ما يبدو من التفاهمات الإسرائيلية – الروسية من جهة، وانسحاب الولايات المتحدة من الملف السوري، من جهة ثانية، ويتعدّاه إلى موقف يطرح أفكارا وتصورات، ترجح انسداد الأفق في الصراع السوري. بالتالي فإن البحث بدأ عن حلول أخرى، تصب في خانة التقسيم وإقامة “سورية المفيدة”، كمرحلة متأخرة يسبقها تأمين مناطق “هادئة” لفترات محدودة، لا تصل ألسنة لهبها إلى الحدود الإسرائيلية (فلسطين المحتلّة) ـ السورية عند الجولان المحتل، وتحييد الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية (فلسطين المحتلّة) كلياً، ولو مرحلياً.
وقد استبق المدير العام لوزارة الاستخبارات الإسرائيلية، رام بن براك، مساء السبت، خطاب وزير الأمن الإسرائيلي موشيه يعالون أمام مؤتمر ميونيخ للأمن، ليعلن خلال مشاركته في المؤتمر أيضاً، أن “تقسيم سورية هو الحلّ الوحيد الممكن، وأنه يجب أن تتحوّل سورية في نهاية المطاف إلى أقاليمٍ، تخضع لسيطرة الطوائف التي تسكن كل منطقة جغرافية فيها”.
”
الوضع في سورية شائك ومركّب للغاية، ومن الصعب أن نرى كيف يمكن للحرب هناك والقتل الجماعي أن يتوقف
” تكمن أهمية أقوال بن براك، الذي كان مرشحاً لرئاسة “الموساد”، في كونها تصدر عن موظف رسمي رفيع المستوى، وليس عن رجل سياسة إسرائيلي. تعكس أقواله مواقف وتقديرات إسرائيلية، تُبنى عادة على رصد للمصالح الإسرائيلية، وسبل خدمة هذه المصالح وفق السيناريوهات المختلفة المقترحة.
لكن تصريح بن براك لم يكن يتيماً، فقد تبعته تصريحات يعالون، التي أبدى فيها، بحسب وسائل الإعلام الإسرائيلية، عن تشاؤمه من احتمالات وفرص نجاح اتفاق وقف إطلاق النار. يعكس توصيف يعالون للوضع السوري، هو الآخر تحوّلاً في الموقف الإسرائيلي المعلن، من عدم التدخل في سورية، باستثناء منع وصول أسلحة ووسائل قتالية متطورة لحزب الله عبر سورية من إيران أو من روسيا.
وقد أعلن يعالون صراحة، أن “الوضع في سورية شائك ومركّب للغاية، ومن الصعب أن نرى كيف يمكن للحرب هناك والقتل الجماعي أن يتوقف. سورية التي نعرفها لن تتّحد مجدداً في المستقبل المنظور، وأفترض أننا سنرى في مرحلة ما ظهور جيوب، سواء كانت منظمة (أي متفق عليها) أو تلقائية للتيارات المختلفة التي تعيش فيها وتقاتل بعضها البعض”.
ومع أن يعالون، وتبعاً لسياسة الحكومة الإسرائيلية، فضّل إبراز إيران وتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) باعتبارهما خيارين سيئين، إلا أنه سعى لتكريس الموقف الإسرائيلي الرسمي، القائل إنه “طالما بقيت إيران في سورية، فإنها لن تعود إلى ما كانت عليه، وستواجه حتى في صورتها كجيوب منفصلة، صعوبة في تثبيت استقرار معين، لأن القوى السنية المحلية لن تتمكّن من فعل ذلك”.
أما التصريح الثالث الذي لا يقلّ خطورة في هذا السياق، فهو تصريح رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، الجنرال هرتسل هليفي، الذي اعتبر في كلمة له أمام رؤساء المنظمات اليهودية الأميركية، الأحد، أن “الحلّ الأمثل لإسرائيل هو وجود مناطق محددة هادئة لفترات محدودة من الوقت وليس اتفاق سلام شامل”.
تمثل هذه التصريحات الثلاثة، وصدورها في توقيت محدد تقريباً، في غضون 24 ساعة تقريباً، من الجهات الأمنية والاستخباراتية والسياسية (باعتبار يعالون يمثل التوجه السائد في الحكومة الإسرائيلية)، تحوّلاً نوعياً في الموقف الإسرائيلي الرسمي، وإهمال لازمة “عدم التدخل في سورية” لصالح “السعي لتأمين مصالح إسرائيلية في ترتيبات محتملة في سورية”.
يحصل ذلك مع استمرار سياسة التطهير التي يتبعها النظام في سورية، في مناطق “سورية المفيدة”، وفق التعبير السوري، و”سورية الصغيرة” وفقاً للتعبير الإسرائيلي والدولة العلوية بحسب كلام وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند أخيراً. وتمتد هذه الـ”سورية” غرباً من الساحل السوري على طوله، ليصل إلى حدود لبنان مع جنوب سورية، وتشمل القصير والزبداني، مروراً بدمشق وحمص المدينة وحماة المدينة (من دون الأرياف).
”
بقاء النظام السوري الحالي، في ظل البدائل المختلفة، أفضل لإسرائيل
” وسبق لمراكز الأبحاث الإسرائيلية وخبراء الأمن القومي، وقادة الجيش والدولة أن اعتبروا في تصريحات مختلفة، أن “بقاء النظام السوري الحالي، في ظل البدائل المختلفة، أفضل لإسرائيل، حتى وإن كان اعتبار إطالة أمد الحرب في سورية والقتال الداخلي فيها، أكثر ما يخدم إسرائيل لأنه يضعف سورية كدولة ويكرس تفتتها وفقدانها لمناعتها، لتتحول لدولة فاشلة”.
وتصريح يعالون ينطوي هو الآخر على تحول، ولو لغرض الدعاية الإسرائيلية، في تحديده لـ”داعش” كخيار سيئ، مثله مثل إيران، لا سيما وأن يعالون نفسه كان أول من اعتبر الصيف الماضي في مؤتمر هرتسليا أن “داعش” لا يشكل خطراً على إسرائيل، وأنه ظاهرة عابرة، لكن التلويح به في خطابه أمام مؤتمر ميونيخ أخيراً، جاء لاستغلال التحول العام في الموقف الدولي من التنظيم، والإجماع العالمي على محاربته.
ويلتقي التنظير والترويج لتقسيم سورية، سواء عبر الدعوة لذلك صراحة، أو كما فعل يعالون عبر القول بوجود هذا التقسيم (غير الرسمي) على أرض الواقع، عملياً مع طروحات أساسية في الفكر والاستراتيجية الإسرائيلية، وسياسات إسرائيل الخارجية لحكوماتها المختلفة، بتقديس “حلف الأقليات”، وتفتيت الرابط القومي العربي إلى طوائف دينية أو أقليات قومية.
وقد كان هذا المنطق وراء التدخّل الإسرائيلي الداعم للأكراد في العراق، في سنوات الثمانينيات، وحتى يومنا هذا، الذي تطوّر أخيراً بدعوة وزيرة العدل الإسرائيلية، أيليت شاكيد، خلال كلمتها أمام مؤتمر مركز “أبحاث الأمن القومي”، الشهر الماضي، إلى “الدعوة لتأييد إقامة دولة كردية مستقلة شمالي العراق”.
يلمح التحوّل الذي تعكسه التصريحات الثلاثة، إلى وجود نشاط إسرائيلي، أو على الأقلّ رهان إسرائيلي، على تأييد روسيا للقبول بدولة “سورية المفيدة” التي ستكون في حال قيامها، نموذجاً كباقي “المناطق السورية”، ضعيفة وغير مستقرة، وتعتمد كل منها على وصاية دولة خارجية.
ستكون مثل هذه الدولة، تحقيقاً أكيداً لمصالح روسيا الاستراتيجية، بالحفاظ على موطئ قدم وقاعدة لها في حوض المتوسط. وكان تقدير موقف لمركز الأمن القومي الإسرائيلي، قد أشار في سياق التفاهمات الروسية الإسرائيلية، إلى أن “التقديرات الإسرائيلية لا تستبعد، رغم التقارب الحالي بين إيران وروسيا، أن تتحول العلاقات بين الاثنتين إلى علاقات توتر وتنافس شديد، على التأثير والنفوذ في سورية المستقبلية، مما يتيح أمام إسرائيل المجال لتعزيز التعاون مع روسيا وتأييد المطامع الروسية، ما دامت روسيا تلتزم بدورها بالأمن الإسرائيلي وبكبح جماح حزب الله وإيران.
العربي الجديد