سناء علي – السفير
تقبض هذه الحرب على أرواحهم متلبّسين بتهمة الحياة، تحاصرهم في «مأوى» أقل ما يمكن وصفه بأنه غير مؤهل للسّكن. ثلاث عائلات مع أطفالهم جمعتهم رابطة دم داخل محلّ (دكّان) في إحدى عشوائيات دمشق المعروفة بـ«جبل الرز» بلا أثاث ولا حتى وسيلة تدفئة، بعدما هجّرتهم الحرب من منازلهم في حيّ الحيدرية في حلب، قبل نحو عام ونصف العام.
«غرفة عم نسترها بشراشف وأجارها أغلى من بيت كامل، الكهربا ماعم نشوفها، ومازوت ما عنا، وربك بيعين ماحدا بيموت قبل ساعته». بضع جملٍ مقتضبة رشقتها الأم بقهرٍ قبل أن تغيب معلنةً رفضها الخوض في التفاصيل، وقد تكون التفاصيل هي أكثر ما يرهقها في هذه الحياة، لكنها كغالبيّة السورييّن بعد أكثر من ثلاث سنوات من الحرب، اختارت الحياة حتى لا تهزمها النكبات والأوجاع.
تشكّل مناطق السكن العشوائي اليوم أكبر حاضنة للمواطنين من مختلف المحافظات السورية، تجمعات بشريّة فوضويّة تفتقر لأدنى معايير الهوية العمرانية، تصهر في نسيجها عائلاتٍ من خلفيات مجتمعية وإثنية ودينية وثقافية وطبقية متنوعة وقد تكون متناقضة في مكان ما، لكن الحاجة إلى المأوى مع هذا الارتفاع الفاحش في إيجارات العقارات والبيوت دفع بهم إلى البحث عن نقطة التقاء كانت خجولة لسنوات طويلة بحكم طبيعة البيئات وليس لأي سبب آخر.
تجربة مثيرة للاهتمام مع هذا الكم الهائل من النقص والحاجة والافتقار إلى مقومات العيش السويّ والكريم، ترجمها السوريون إلى واقع يعارض فرضية التقسيم الديموغرافي والطائفي التي يتم الترويج لها إعلامياً خارج سوريا.
وبحسب المكتب الإحصائي في محافظة دمشـــق، فــقد بلــغ عدد ســكان دمشــــق (المدينة) ما يقارب 1.8 مليون نسمة، أما الريف فنحو 3.7 ملايــين حــتى تاريخ الأول من كانون الثــاني 2014، مقـــارنة بنصـــف هـــذه الأعـــداد في العام 2011. ومن المؤكــد أن الأرقام قد خضعت للزيادة حتى نهــاية العـام 2014، ومعظم هؤلاء السكان يتــوزعون في تجــمعات ســكن عشوائي، كونها أقل تكلفة ومتوفرة بعكس السكن النظامي. وبحسب آخر إحصائية صادرة عن وزارة الإدارة المحلية، فإن نحو 157 منطقة سكن عشوائي منتشرة الآن في دمشق وريفها، وقد تكون أحياء جرمانا والمزة (86) ووادي المشاريع في مشروع دمر وحي الورود في قدسيا أمثلة تشرح الحال بأبسط ما يمكن التعبير عنه، فهي على اتساع رقعة بنائها العشوائي، تضم آلاف العائلات من مختلف المشارب.
وتعاني معظم هذه المناطق من تدني مواصفات البنى التحتية وافتقاد الشروط الصحية والبيئية السليمة، ناهيك عن التضخم الاقتصادي المنهك، إذ تحتاج العائلة بشكل وسطي إلى ما يقارب الـ150 ألف ليرة سورية (حوالي 800 دولار) لتأمين الحد الأدنى من المعيشة، حيث بلغ الرقم القياسي لأسعار المستهلك عن شهر كانون الثاني 2014 (309.73 في المئة) بحسب آخر دراسة أجراها المكتب المركزي للإحصاء في رئاسة مجلس الوزارء.
«نعم الوضع سيئ والإيجارات غير منطقية وجائرة جداً»، هذا ما قاله محمد، العسكري الوافد برفقة أهله وعائلته من حلب، ليعقّب جاره أبو مريم القادم من درعا: «نضطر للسكن عدة عائلات إخوة أو أقارب في بيت واحد لعدم قدرتنا على دفع إيجار أكثر من منزل».
تلك الهموم تقاسمها الجيران مكرهين، إلّا أن توليفة السكان مجتمعةً خففت من سوداوية المشهد قليلاً، فترى الأطفال يلهون مع بعضهم في الحارات برغم أن بينهم من لا يفهم ما يقوله أقرانه خاصة عندما يكون بين الأطفال فتية أكراد أو تركمان.
سكان الحيّ وافدون من أكثر من خمس محافظات، يتجاورون في السكن ويتقاسمون يوميات الحاجة والفاقة. حلّاق الحيّ من بصرى الشام في درعا، وجيرانه من حلب وحمص ودير الزور وريف دمشق. يعترف الحلاق أن لا علاقات اجتماعية وطيدة بين عائلات الحيّ، فلكلّ منهم همّ يلهيه ويشغله، لا أحاديث في السياسة ولا انتماءات متطرفة معلنة ولا أحد يعنيه إن كان جاره من الموالاة أو المعارضة أو غير منتمٍ أساساً. لا روابط تجمع الوافدين، لكنهم يتحاشون التعرض لبعضهم بأي إساءة، فمناطق السكن العشوائي في ضواحي العاصمة دمشق باتت تشكل اليوم ملاذاً لشرائح مختلفة من الانتماءات والعادات والمذاهب والطبقات الاجتماعية على امتداد الأراضي السورية بعد خروجهم من مدنهم ومنازلهم في أعقاب اشتعال آتون الحرب منذ ما يقارب الأربع السنوات.