في بيروت لم تفلح الأضواء والزينة في أن تغشي أبصار مسيحيي حلب اللاجئين إليها والمنسيين على أطرافها وتنير وحشة أعيادهم بعد أن خسر معظمهم حياة سابقة بكل ما فيها.
لكن في دمشق سطعت الأضواء فوق العادة معبّرة عن إرادة حياة أهلها وإن أظهرت قسوة النزوح عن الديار وتباعد المسافات التي فرضتها الحرب بين أبناء الشعب الواحد.
وشهدت مدينة حلب التاريخية التي كانت إحدى أكبر المراكز الاقتصادية في سوريا معارك شرسة دمرت الكثير من أحيائها ومعالمها الأثرية منذ بداية الحرب الأهلية قبل أربع سنوات فاضطر مئات الآلاف من سكانها الذين يقاربون الستة ملايين نسمة للنزوح والهجرة.
“آه على العيد بحلب بين الأهل والأخوة” بهذا الوجع استحضر واروجان نصري نصري (52 عاما) ذكرياته عن الاحتفالات بالأعياد في مدينته العريقة.
وأضاف “كنا نزور كل كنائس حلب ليلة العيد.. وقبل العيد بشهر كانت المتاجر تفتح أبوابها ليلا نهارا .. لم يكن ينقصنا شيء وكانت البيوت ترقص رقص بأضواء الشجرة والمغارة والفرحة لا تسعنا.”
قبل نحو خمس سنوات فقط كان نصري صاحب مطبعة ملابس في حي مخفر الميدان في حلب ويسكن مع عائلته في منزل “يرمح فيه الخيال” على حد وصفه مع زوجته وبناته الثلاث هروبسمة وهامست ولينا اللواتي كن تتابعن تعليمهن في الجامعات والمدارس. لكنهم اليوم يسكنون منزلا متواضعا في ضاحية برج حمود شرقي بيروت وتعمل ابنته الكبرى كبائعة في متجر للملابس لتدفع الإيجار.
“راح كل شيء وأصبح من الذكريات” قالها نصري بعينين شردتا بعيدا إلى منزل وحي تحولا ركاما “لم نُخرِج من البيت لا خيط ولا مسمار ونجونا بمعجزة إلهية.”
واستعاد نصري احتفالات الميلاد بالقول “كنا ليلة الميلاد نقضيها في بيت أمي وأبي -الله يرحمهما توفيا أثناء الحرب- وفي اليوم التالي في منزل أخي الكبير. نحن نعيد من 25 ديسمبر وحتى 6 يناير. وكانت الموائد تمتد وعليها كل أنواع الطبخ الحلبي والأرمني والحلويات والمكسرات على أنواعها وكان كل بيت يحضر صدر كنافة يطعم عشيرة.”
ختم واروجان كلامه قائلا “شو بدنا نعمل… هذه هي حال الحروب.. تشرد وفقر وجوع وتخلف.. لا علم ولا دراسة ولا أي شيء. يحتار كل واحد كيف سيعيل عائلته. بالعيد هون رحنا بالليل صلينا بالكنيسة ورجعنا الى البيت ونمنا. لم نزر احد وليس لدينا احد هنا ليزورنا. هلق (حاليا) عم نحلم بشي سفرة.. هون (هنا) الحياة صعبة.”
وسكن حلب 160 ألف مسيحي قبل الحرب بقي منهم 50 ألفا وفقا لإحصاءات الحكومة البلجيكية التي استضافت على أراضيها 200 عائلة منهم في يوليو تموز الماضي.
وأوضحت المفوضية العليا للاجئين لرويترز أن 1.8 في المئة فقط من مجموع اللاجئين المسجلين في لبنان والبالغ 1.07 مليونا هم مسيحيون أي ما يعادل 19200 فرد.
خارج منزل واروجان كانت شوارع وأزقة منطقة برج حمود -التي استقبلت مثل حلب الأرمن المهاجرين منذ أوائل القرن الماضي وفتحت ذراعيها لكل لاجئ ونازح من كل حدب وصوب داخل لبنان وخارجه ومن كل الجنسيات والاديان – تكتظ بالمتسوقين والمتفرجين بينما كانت أغاني عيد الميلاد تذاع من مكبرات الصوت والمتاجر تعرض جميع أنواع الحلوى والمشروبات والسكاكر.
وعند باب متجر “الحلبي” في شارع مرعش تستوقفك الأشكال والأنواع الغريبة للحلوى غير المألوفة حيث تشبه البضائع المعروضة بطريقة آسرة والدكاكين المتلاصقة مثيلات لها في شارع البزورية الشهير في دمشق القديمة.
ما إن يقف أحد المارة هنيهة حتى يتلقفه ليفون ساجوبيان (53 عاما) بضحكة عريضة ووجه أبوي بشاربين عريضين.
جاء ساجوبيان مع عائلته هربا من السليمانية بحلب أيضا قبل ثلاث سنوات بعد أن تدمر جزء من منزله.
وقال “في حلب كل بيت يقدم ليلة العيد ما يطلع من قلبه. شوكولا وملبسات ومشروبات مثل العنبرية وغيرها من المشروبات المطعمة بنكهات الفواكه. والبقلاوة المشكلة على أنواعها وإسوارة الست (نوع من البقلاوة المصنوعة على شكل أسطواني ومحشوة بالفستق الحلبي). اليوم صرنا نحلم بها.”
والعنبرية نوع من الشراب يصنع في حلب صيفا خصيصا لفترة الأعياد إذ يوضع الكرز كاملا مع عصيره في برطمانات كبيرة ويمزج بمشروبات كحولية مثل العرق (المصنوع من العنب) أو الويسكي أو الكونياك وتوضع فيه المطيبات مثل كبش القرنفل وعيدان القرفة وغيرها ويترك ليتخمر حتى شهر الأعياد فيصفى ويقدم. ومنهم من يصنع عنبرية النسكافيه أو الموز أو غيرها من الفواكه لتقدم خصيصا في هذه المناسبة.
وأضاف ساجوبيان “لم يفرق عيد الميلاد بشيء. الانسان طالما بصحته وعافيته يكون كل يوم عيد. نحن نعمل كل العام وننتظر آخره حتى نحتفل. الله يديم الصحة وساعتها سيكون كل يوم رأس السنة بالنسبة لنا.”
* الحياة يجب أن تستمر
في دمشق.. كان الشعب نفسه يحيي الاحتفالات عينها ويتبادل التهاني باللهجات عينها لكن فرح العيد كان ضيفهم هذا العام الذي غاب عن بيوت اللاجئين على أطراف بيروت.
وشهدت أحياء باب توما والقصاع والشعلان وأبو رمانة وغيرها في دمشق على غير العادة منذ بدء النزاع زينة وأنوارا وعجّت الأسواق بالزبائن والمتفرجين والمشاركين في المهرجانات التي عمّت الشوارع.
وتدفق المحتفلون في ليلة الميلاد والأيام التي سبقتها إلى أماكن السمر بعد أن نفذت تذاكر كل الحفلات التي أحياها مطربون معروفون مثل شادي جميل وناصيف زيتون ومعين شريف بهذه المناسبة على الرغم من أن سعر البطاقة وصل إلى مائة دولار أي ما يقارب 34 ألف ليرة سورية.
كما امتلأت المطاعم وأماكن السهر المعروف منها والمغمور عن آخرها بالرواد في باب توما والقصاع وأبو رمانة والمهاجرين منذ ليلة الميلاد وكأن الكأس قد فاضت وقرر المسيحيون هذا العام أن ينسوا كل شيء ويستعيدوا أفراحا نسوها أو عاشوها بخوف وقلق طوال السنوات الأربع الماضية.
ولدى سؤال بعض رواد الحفلات الغنائية عن سبب قرارهم الخروج والاستمتاع بالأعياد على الرغم من القصف المتقطع على دمشق من حين لآخر كان جواب الجميع تقريبا “مللنا الانتظار وتأجيل الفرح حتى تنتهي الحرب. نريد أن نعيش حياتنا وأن تعود الحياة كما كانت. سئمنا الخوف.”
وفي كرنفال ميلادي في شوارع باب توما كانت سيلفا جمال وغيرها الكثير يشاركون أصدقاءهم أو أطفالهم أو عائلاتهم الاحتفال.
وقالت سيلفا “هذا العيد كان بيجنن. اليوم الكرنفال جميل جدا ونحن نشارك فيه. خرجنا ليلة العيد والليالي التي تلتها مع الأهل وسهرنا. كانت ليالي رائعة والوضع كأنه طبيعي وانشالله بجاه ليالي هذا العيد ترجع سوريا متل ما كانت.”
وأكملت لينا هورو الكلام بالقول “نشكر الله أن هذا العام غير كل عام. حسّينا شوي الأمان أكثر. نحن شعب لا يليق بنا الحزن. يجب أن نخرج لا أن نبقى حبيسي البيوت.”
وبدأت الطائرات الروسية غارات على التنظيمات السورية المسلحة المناوئة للنظام منذ 30 سبتمبر أيلول قتل في إحداها في الآونة الأخيرة قائد أحد أكبر الفصائل المسلحة التي كانت تسيطر على الغوطة الشرقية لدمشق وتمطر أحياءها بين وقت وآخر بالقذائف.
وقال أحد المارة في شارع القصّاع ويدعى ماهر صادق “السنة أحسن من غير سنين. نريد الاستمرار بحياتنا. نريد أن تعود أيامنا كما كانت. في النهاية هذه بلدنا ونريد أن نحتفل بأعيادنا وطقوسنا وأن يرى الصغار العيد كما كنا نحن نراه. هذا ما نتمناه.”
لكن بالنسبة إلى واروجان نصري وغيره ممن فقدوا كل شيء في الحرب يبدو الأمل واهيا لكن غير مستحيل في العودة وأن ينقلوا هم أيضا لأبنائهم ما توارثوه على مدى عقود عن آبائهم.
“ضل معي مفتاح المصعد ومفتاح المطبعة ومفتاح البيت ذكرى” قالها واروجان “ربما نعود ذات يوم .. عند الله لا يوجد مستحيل.”
رويترز