عبدالله بن بجاد العتيبي – الشرق الأوسط
خرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخميس الماضي متباهياً بإنجازاته السياسية والعسكرية بطريقة غير مسبوقة، في طريقة العرض الجديدة واستخدام التقنيات الإعلامية الحديثة للشرح، ولكن في المضمون فقد كانت لغة الحرب الباردة القديمة وذكرياتها ومراراتها وهزائمها تملأ مفردات الخطاب ولغته ومعانيه.
ربما كان هذا الخطاب صادماً في مدى صراحته في التعبير عن رؤية بوتين، ولكن هذه الرؤية واضحة منذ سنواتٍ طويلة وقد عبرت عنها سياسات روسيا ومواقفها تجاه الأزمات الكبرى في العالم، سواء في منطقة الشرق الأوسط أم تجاه كوريا الشمالية وإيران أم تجاه أوكرانيا أم غيرها، وما يجري منذ سنواتٍ تجاه الأزمة السورية أو الأزمة اليمنية يكشف كثيراً أن هذا نهج ثابتٌ للسياسة الروسية.
أراد بوتين منذ سنواتٍ طويلة أن يوصل لشعبه وجيشه وحلفائه أنه سيكون ستالين السوفياتي والقيصر الروسي في ذات الوقت، وأنه سيمنح روسيا دوراً دولياً معتبراً من جديدٍ، يستعيد به أمجاد الماضي، وقد دنا له قطاف ما أراد أثناء سنواتٍ ثمانٍ من حكم باراك أوباما للولايات المتحدة وانعزاليته وانكفائه.
بعض ما جاء في خطاب بوتين عبرت عنه روسيا في مجلس الأمن الأسبوع الماضي، في قرارين مهمين يتعلقان بالشرق الأوسط؛ واحدٌ باتجاه الهدنة في الغوطة الشرقية بسوريا، وآخرُ تجاه الدور الإيراني في تسليح ميليشيا الحوثي باليمن، وافقت على القرار الأول، ثم فسرته أحادياً في اليوم التالي بهدنة لخمس ساعاتٍ فقط يومياً، مع الاستمرار في ضرب الغوطة الشرقية بكل قوة وعنفٍ كما جرى من قبل في حلب وكما يتذكر بوتين من التعامل مع غروزني من قبل، وأما القرار الثاني المقدم من بريطانيا تجاه دور إيران في اليمن فقد رفضته ومررت مقترحها دون أي إشارة للدور الإيراني هناك.
إنها حربٌ عالمية باردة جديدة بكل معنى الكلمة، فخطاب بوتين صريحٌ ومفرداته واضحة وهو يأتي تتويجاً للسياسات والقرارات والاستراتيجيات الروسية ويعرض نتائجها وليس إعلاناً عن ابتدائها، وهو ما ظلّ يؤكده البعض منذ سنواتٍ ومنهم كاتب هذه السطور بهذه المساحة في التحذير من تصعيد الحرب الإقليمية الباردة التي أطلقتها إيران الخمينية إلى حربٍ عالمية باردة، وكان الأكثرية يرفضون مثل هذا التحليل آنذاك ولا يعيرونه اهتماماً، وقد ثبتت صحته بكل وضوحٍ.
ولكنْ ثمة سؤالٌ بالغ الأهمية يتعلق بالتوقيت، لماذا اختار بوتين هذا التوقيت بالذات؟ هل هو مجرد تحضير للانتخابات الرئاسية القادمة بعد أسبوعين تقريباً؟ أم إنها رغبة في استحضار ما يراها منجزاتٍ سياسية واستراتيجية كبرى له في مواجهة الغرب؟ أم إنها وعودٌ للمستقبل؟ بمعنى جردة حسابٍ للمنجز وإبرام وعود بالاستمرار على ذات النهج في المستقبل؟ قد تكون هذه وغيرها جزءاً من الإجابة، ولكن هل فكر الرئيس بوتين بما يمكن أن يجره هذا الخطاب على بلاده من سياساتٍ دولية قد لا يكون الرابح الأكبر فيها؟
في مسار التاريخ هناك دائماً احتمالاتٌ للمستقبل، قد تصل حدّ التناقض، وباستعادة سريعة للتاريخ الحديث فقد كان الوصول للحرب الباردة تعبيراً بالغاً عن إجماعٍ دولي على رفض الحروب العالمية، وإقراراً بمدى بشاعتها وتدميرها للعالم بأسره، وأن مستقبلها يعني الفناء البشري، ومن هنا جاءت كل المعاهدات الدولية التي تدفع نحو رفضٍ باتٍّ للحروب العالمية الكبرى كنتيجة لذلك الإجماع الدولي، فهل هذا الخطاب يعني إشارة للانخراط في اتجاه معاكس؟ بمعنى هل الهدف هو تصعيد الأزمات الإقليمية الكبرى في كوريا الشمالية وأدوار إيران في الشرق الأوسط وأزمة أوكرانيا وغيرها لتنتظم في حربٍ باردة جديدة يتم الانتقال منها إلى حربٍ عالمية ثالثة لا تبقي ولا تذر؟
في لحظات الانتقال التاريخية في توازنات القوى الدولية كان الكل يفتش عن تعزيز مكانته الدولية وتحقيق مصالحه الكبرى، والرغبة في اهتزاز تلك التوازنات لتحصيل المصالح، ولكن من حقائق التاريخ التي لا يجب إغفالها أن حسابات الحقل لا تتطابق مع حسابات البيدر، وأن المغامرة تكون غير محسوبة حين الإقدام على مثل هذه السياسات، وقد يكون الساعي لمثل تلك الاهتزازات هو أكثر الخاسرين فيها.
في مسألة التوقيت – أيضاً – فقد جاء خطاب بوتين بعد تصاعد اتجاه غربي واضحٍ لتأييد سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترمب تجاه الأزمة في سوريا والنقد الصريح والمباشر لسياسات روسيا هناك، فقد دخلت فرنسا وبريطانيا على خط الأزمة، وكلما ازدادت وحشية نظام الأسد وميليشيات إيران والقوات الروسية ازداد أنصار الدول الرافضة للقرارات الروسية في سوريا، وما قضية الغوطة الشرقية إلا مجرد مثالٍ.
وفي مسألة التوقيت – كذلك – فهو خطابٌ جاء في ظل رئيس أميركي مختلفٍ تماماً عن سلفه، في مسألة النظر لدور أميركا ومكانتها في العالم، وهو رئيس يخوض معركة سياسية داخلية لتوفير أكبر دعمٍ تاريخي لوزارة الدفاع الأميركية البنتاغون، وتقوية أميركا على كافة المستويات لقيادة العالم، فهل يعتبر هذا توقيتاً مناسباً لإعلان التهديدات وإظهار التحديات والاستعراض بالقوة العسكرية.
وفي مسألة التوقيت، وإضافة لما سبق، يجب السؤال عن الجانب الاقتصادي، وهل الاقتصاد الروسي في مرحلة من الانتعاش والتطور والنمو بما يسمح له بالدخول في منافسة دولية وإطلاق سباق تسلحٍ جديدٍ مع أميركا والغرب؟
جاء في خطاب بوتين تهديدٌ صريحٌ بأنها ستدافع عن حلفائها تجاه أي اعتداء، فمن هي الدول الحليفة لروسيا حالياً؟ من أهمها في هذا السياق كوريا الشمالية وإيران، فهل استشعر بوتين تهديداً فعلياً للدولتين؟ وهل كان تعبير كوريا الشمالية الذي نقله رئيس كوريا الجنوبية مون جاي إن الأسبوع الماضي والذي سبق أن أعلن عنه في ديسمبر (كانون الأول) الماضي سيرغي لافروف وزير خارجية روسيا عن الرغبة في محادثات مباشرة مع أميركا تأكيداً مسبقاً لاستشعار خطرٍ محدقٍ؟ وفي الشأن الإيراني فإن موقف إدارة ترمب صريحٌ وواضحٌ وقوي تجاه سياسات إيران والموقف منها وهو متقدمٌ جداً مقارنة ببعض الدول الأوروبية، فهل هناك استشعارٌ حقيقي لسياساتٍ وشيكة قد تجبر إيران على الرضوخ للقرارات الدولية والتوقف عن سياسات «استقرار الفوضى» ودعم الإرهاب؟
أخيراً، فباب التاريخ مشرعٌ للجديد، واستعادة التوازن في السياسة الدولية بدأت بالفعل، وتبقى أبواب المستقبل مفتوحة للتطورات باتجاه الموقف من الأمن والسلم الدوليين إن سلباً وإن إيجاباً.