صحيفة السفير
لم يتأخر السوريون في حمل جواب واضح على الدعوة الروسية لهم لاستعادة المسار السياسي. فبعد ثلاث ساعات من وصوله أمس إلى دمشق عائدا من موسكو أمضاها في اطلاع الرئاسة السورية على تفاصيل العرض الروسي، عاد نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى موسكو، لاستكمال المشاورات مع الديبلوماسيين الروس، حول العرض الذي تقدم به وزير الخارجية سيرغي لافروف، وإيصال جواب سريع، وطرح أسئلة وبعض الاستيضاحات.
وتشكل عودة الديبلوماسي السريعة إلى موسكو، مؤشرا على كسب الوقت، والذهاب نحو اختبار الأفكار الروسية، فيما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصل إلى أنقرة حاملا جزءا منها إلى نظيره التركي رجب طيب اردوغان، وتصورًا لتجاوز الاعتراض التركي المتوقع، وعرقلة اشتراك بعض أجنحة المعارضة في لقاء، يدعمه الأميركيون منتصف كانون الأول الحالي، في موسكو، يمهد للذهاب نحو اجتماع مع وفد رسمي سوري نهاية كانون الثاني المقبل على قاعدة «جنيف واحد».
وفي الوقت الذي اتفق فيه بوتين واردوغان على رفع التبادل التجاري بين البلدين، فإنهما اختلفا جذريا بشأن الملف السوري والرئيس السوري بشار الأسد.
وعَبَّرت موسكو عن توجه قوي لجعل الأراضي التركية معبرا لغازها إلى الدول الأوروبية عوضا عن أوكرانيا. ووقع البلدان سلسلة من الاتفاقيات أبرزها بناء خط أنابيب بحري يربط بينهما عبر البحر الأسود بطاقة سنوية 63 مليار متر مكعب، بينها 14 مليار متر مكعب ستذهب إلى تركيا، وذلك بعد إعلان بوتين تخلي موسكو عن مواصلة المشروع الروسي ـــ الإيطالي لبناء أنبوب غاز «ساوث ستريم» الذي يعارضه الاتحاد الأوروبي، بسبب معارضة بلغاريا.
وأعلن بوتين زيادة كمية الغاز الروسي المصدر إلى تركيا وخفض سعره، مشيرا إلى أن روسيا قد تتعاون مع أنقرة لإنشاء مجمع للغاز الطبيعي على الحدود مع اليونان. وقال اردوغان، من جهته: «وَقَّعنا اتفاقيات اقتصادية، تهدف للوصول إلى حجم تبادل تجاري يصل إلى 100 مليار دولار حتى العام 2023» بارتفاع من 33 مليار دولار حاليا.
ودعا بوتين، في مؤتمر صحافي مشترك مع اردوغان في أنقرة، إلى إيجاد «حلول للأزمة السورية تكون مقبولة لدى جميع فئات الشعب»، مضيفا أن «الانتخابات الرئاسية في سوريا أثبتت تأييدا كبيرا للأسد»، مشيرا إلى أن «هذا الأمر يقرره الشعب السوري».
وأضاف بوتين أن «موسكو لن تسمح بانتشار الإرهاب في سوريا، كما هو الحال في مناطق أخرى من العالم»، مشددا على أن «موسكو لا تستطيع التأثير بشكل مباشر في الأوضاع هناك»، ومشيرا إلى أن «روسيا أوضحت للقيادة السورية ضرورة وقف سفك الدماء في البلاد».
من جهته، حَمَّل أردوغان الرئيسَ السوري مسؤولية الأزمة وما يترتب عليها. وأعلن أنه متفق مع بوتين على ضرورة الوصول إلى حل شامل للأزمة السورية، إلا أنهما يختلفان حول كيفية الحل. وأعلن انه أكد لنظيره الروسي «موقف أنقرة من الأزمة السورية، ومسؤولية نظام الأسد عن مقتل أكثر من 300 ألف إنسان، وعدم إمكانية تحقيق أي حل للأزمة السورية في ظل بقاء الأسد».
وأضاف اردوغان: «يقول البعض: ماذا لو ذهب الأسد، ماذا سيحدث؟، هذه أقوال غير سليمة، سوريا التي شهدت مقتل أكثر من 300 ألف شخص، وصلت إلى الأوضاع الحالية بسبب نظام الأسد، الذي لم يحقق أي إنجاز لبلاده». وشَدَّد على «ضرورة تشكيل منتدى يعزز التضامن بين دول الجوار والمنطقة من أجل حل الأزمة السورية، من دون النظر إليها طائفيا أو مذهبيا، أو غير ذلك».
ورغم أن السوريين تعاطوا بكثير من الإيجابية مع الاستعجال الروسي لاستعادة المسار السياسي المجمد منذ فشل «جنيف ٢» في شباط الماضي، إلا أن ذلك لا ينفي وجود بعض التساؤلات في دمشق، عن توقيت طرح الأفكار الروسية.
وكان وزير الخارجية وليد المعلم في موسكو قد أتى عليها، ملمحا إلى ضرورة التشاور في ما طرحه الروس من أفكار وإيجاد آليات للتشاور، وهو ما يعني استمهال موسكو أولا ريثما تتضح الصورة، والتعبير بطريقة غير مباشرة عن انعدام الحماسة للفكرة، رغم ما أرفق الروس بالزيارة من تصريحات تؤكد استمرار الدعم للرئيس بشار الأسد، وهو ما ردده بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف.
والحال أن إحياء المسار السياسي السوري، ولو في موسكو وبضمانات إسقاط النقاش بموقع الأسد ومستقبله، وموافقة المعارضة في موسكو على أولوية مكافحة الإرهاب كبند أول، لا يتقاطع مع التطورات الميدانية في الشمال السوري خصوصا، واقتراب الجيش السوري تدريجيا من تحقيق انتصار في شرق حلب، وفرض حصار على معاقل المعارضة فيها، والتقدم لإغلاق طريق الكاستيلو، معبر الإمداد الأخير نحو تركيا، في شمال شرق المدينة.
كما أن انغماس الولايات المتحدة في احتواء تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»-»داعش» في سوريا، وتهديد طرق إمداده، واستمرار الإغارة عليه، يريح الجانب السوري نسبيا على الصعيد العسكري. ويبدو الموقف الروسي من الضربات العسكرية الأميركية أعلى سقفا وأكثر انتقادا من الموقف السوري نفسه، الذي يتعامل معه كأمر واقع، فيما لا تتوقف موسكو، ووزيرها لافروف عن انتقاد تحالف الإرهاب وانفراد الولايات المتحدة بالعملية من دون قرار من مجلس الأمن، واتهامها أنها تخطط في السر لتوجيه ضربة لدمشق وإسقاط الأسد.
ولا يبدو إحياء المسار السياسي في وقت يناسب دمشق، بعد أن فرضت وقائع غزوة الموصل في حزيران الماضي أولوية قتال «دولة» أبو بكر البغدادي على ما عداها، وإسقاط كل الحسابات الأخرى على ما قاله رئيس الأركان الأميركي مارتن ديمبسي، وإقالة وزير الدفاع تشاك هايغل الذي لم يعد يوافق على الإستراتيجية الحالية التي تستبعد الهجوم على الرئيس السوري.
وبدا جليا أن فصلاً كبيراً قد تحقق بين الميداني والسياسي في سوريا لمصلحة النظام السوري. إذ لم يعد في وسع المعارضة السورية المسلحة أن تترجم تقدمها على جبهات مهمة، كالجنوب في درعا والقنيطرة، انتصارات سياسية، أو تدفع بها نحو دمشق لتهديد النظام، الذي أصبح خارج التهديد. وما دام مستبعدا إنزال قوات برية أميركية في الحرب على «داعش»، وتولي الحليف الإيراني أمر تنسيقها على المقلب العراقي، والرهان على الجيش السوري كقوة وحيدة قادرة على مواجهة «الدولة الإسلامية» و»جبهة النصرة» وغيرها في سوريا، لا يمكن للمعارضة السورية المسلحة، وغرفة عمليات عمان السعودية – الأميركية، والإسرائيلية في ريف القنيطرة إلا أن تراكم أوراقاً، يمكن استخدامها موضعيا للضغط على الجيش السوري، وخطوط دفاعه في الجنوب، ومحاولة الاقتراب من جيوبها المحاصرة في ريف دمشق الغربي، من دون أن تذهب إلى حد تهديد دمشق، التي أصبحت حليفا غير معلن وضروريا في الحرب على الإرهاب.
وخلال الأسبوع الماضي قدم السوريون للأميركيين أكثر من 600 إحداثية، عبر المخابرات الاسبانية، سمحت بشن غارات جديدة على مواقع «داعش» في الشرق السوري، وحول حلب، وتجديدها، بعد أن فرغ بنك أهداف تحالف الإرهاب، واستطلاعه منذ الأسبوع الأول للعمليات قبل ثلاثة أشهر.
والأرجح ألا يرفض السوريون طلب الحليف الروسي بالعودة إلى طاولة المفاوضات واختبار الحل السياسي، إذ يبدو هامش المناورة الديبلوماسية إزاء الحليف الروسي أضيق من الماضي. فقبل شهرين تقدم السوريون للروس والإيرانيين بتصور عن أوضاعهم الميدانية والاقتصادية يظهر الحاجة إلى تغيير مقاربتهم للمساعدات الميدانية والاقتصادية المقدمة للجيش السوري، وضرورة بذل المزيد من الجهود وتنفيذ الاتفاقات الموقعة في ميدان التسلح لمواصلة العمليات الحربية ورفع وتيرتها، وتجديد خطوط الائتمان الاقتصادي.
وتقول مصادر عربية إن الإيرانيين رفعوا من عمليات إيفاد الكوادر والخبراء، التي تدخل في إطار تنشيط الحرب على «داعش»، ومساعدة الجيش السوري في حرب المدن. كما تعهد الروس بإرسال خبراء جدد، وأسلحة نوعية خصوصا في مجالات تدمير الأنفاق والتحصينات، بدأ الجيش السوري بالحصول عليها. لكن صفقة صواريخ «اس 300» المضادة للصواريخ وللطائرات، والتي دفع السوريون جزءا من ثمنها البالغ٩٠٠ مليون دولار، لم تتحرك كثيراً. وتقول مصادر عربية انه لا الوفد السوري ولا الجانب الروسي قد طرح على النقاش، قضية تسليم البطاريات الأربع من الصواريخ، والتي كان من المقرر أن تباشر به موسكو الربيع الماضي.
ويبدو أن موسكو تريد الاحتفاظ بملف الصواريخ ورقة ضغط وانعطاف مهمة بيدها، رغم أن مسؤولين سوريين، في المعارضة والحكومة، يقولون إن موسكو سلمت دمشق أسلحة أهم من الـ»اس 300». لكن تسليم الصواريخ في هذا التوقيت سيؤدي إلى إغلاق كل مشاريع الحظر الجوي، والمناطق الآمنة، أو العازلة، أو الضربات الملتبسة التي يستنسخ فيها وزير الخارجية الفرنسية لوران فابيوس الإستراتيجية الإسرائيلية بتوجيه ضربات إلى أهداف سورية، وعدم الإعلان عنها، كما جرى إزاء مفاعل «الكبر» السوري او معهد البحوث العلمية في جمرايا.
ويشكل تسليم الصواريخ، التي غابت عن النقاش موقتا، رسالة قوية لأصحاب تلك المشاريع، في تركيا وقطر والسعودية والأردن وإسرائيل في الجنوب، ويمنح السوريين القدرة على التحدث بصوت أعلى في مواجهة انتهاك سمائهم بحجة مواجهة الإرهاب.