كشف الانفصال البريطاني عن الاتحاد الأوروبي رغبة لندن في الانكفاء على ذاتها، وعن بداية تشكل جغرافيا أوروبية جديدة، كما أحيا البريكست النزعة الانعزالية لدى البريطانيين، إذ أن دافعهم الرئيسي إلى مغادرة الاتحاد هو الشعور المتزايد بالقومية وبالهوية الوطنية، وتتجاوز الدوافع التجارية التي ستوظفها الدول الأوروبية في محاصرة بريطانيا وتأديبها خشية تكرار تجربة الانشقاق في دول أخرى من القارة.
لم تتح الفرصة لمعرفة هذا الاتحاد جيدا
مرة أخرى تفشل بريطانيا في فهم هويتها الأوروبية. هذا بلد لا يرى أي شراكة هوياتية بينه وبين الاتحاد. الموضوع كله بالنسبة إلى البريطانيين لا يتخطى حاجز القيم الليبرالية المشتركة بين الجانبين. بريطانيا لم تكن ولن تكون جزءا حقيقيا من أوروبا.
العقلية البريطانية ترى جزر الإمبراطورية كسفينة. السفينة هي كيان مستقل، غير مرتبط بمكان أو بأحد، وبإمكانه دوما الشعور بهذا الاستقلال في عرض البحر. عندما ترسو السفينة بجوار اليابسة، فلا يكون الرابط بينهما سوى مجموعة حبال رفيعة، يمكن فكّها في أي وقت.
لم ترد بريطانيا يوما لأوروبا أن تتحول إلى دولة عملاقة ذات سيادة واحدة تذوب فيها كل الهويات. كان هذا هو سبب انضمامها إلى الاتحاد، وهو نفس سبب خروجها منه.
بريطانيا لا ترى نفسها أوروبية، مثلما إسرائيل لا ترى نفسها عربية. عقل كلا الدولتين يشعر أنه محاط ببيئة لا تشبهه ولا يشبهها.
الحروب أجبرت الأوروبيين على احتضان بريطانيا والحروب، ووصمة الأرض المغتصبة، هي ما تسببت في قطيعة العرب، الشعبية على الأقل، مع إسرائيل.
الانتصار دائما في هذه الحروب المتوالية، والقناة الفاصلة بين بريطانيا وأوروبا، جعلا البريطانيين غير مستعدين لفهم أن الاتحاد نشأ أصلا من أجل ترسيخ السلام في القارة، مثلما تفكر شعوب الدول الأوروبية التي ذاقت ويلات الهزائم الواحدة تلو الأخرى. النتيجة كانت أن أغلب البريطانيين لا يملكون هذا الشعور الوجداني بضرورة الالتصاق بالاتحاد.
عزلة البريطانيين
القناة الإنكليزية لعبت دورا هائلا في عزل البريطانيين نفسيا عن اليابسة الأوروبية. في وقت الاحتياج إلى الاتحاد، كانت القناة الإنكليزية طوال الوقت هي “قناة اتصال” مع أوروبا. في النهاية بريطانيا هي جزيرة صغيرة يتكوم فوقها شعب كبير.
أكثر من وضع يده على هذا الجرح ببلاغة هو بيل بريسون رائد أدب الرحلة وأكثر من تمكن من تبسيط الكتب العلمية في العالم المتحدث بالإنكليزية. يقول بريسون في كتابه “أيقونات إنكلترا” إن “البريطانيين، مثلما هو الحال مع اليابانيين الذين يعيشون أيضا فوق جزر صغيرة ومزدحمة، يحبون الانعزال ويفضلون الاهتمام بشؤونهم، وهم غارقون في هوسهم بالفوارق الطبقية في المجتمع”.
الواقع أن العقلية البريطانية ليست وحدها التي تغيرت، بل تغيرت أيضا الجغرافيا السياسية في أوروبا كلها
في فرنسا مثلا لا يريد الناس تذكر الهزيمة المذلة في معركة واترلو، أو الاجتياح النازي لبلادهم أثناء الحرب العالمية الثانية.
في الجنوب الشرقي من فرنسا تقع اليونان. هذا بلد صغير عانى طوال أربعة قرون تحت حكم الأتراك، ثم دخل حربا أخرى مع الأتراك تحت حكم ملكي قمعي استمر حتى جاء النازيون واحتلوا البلد، قبل أن يخوض اليونانيون حربا أهلية طاحنة انتهت بانقلاب عسكري. اليوم مازالت اليونان تعاني أزمات اقتصادية طاحنة منذ حوالي العقد، لكن مازال اليونانيون متمسكين بالاتحاد.
العقلية الألمانية تفكر بنفس الطريقة. البلد الذي لطالما حلم طوال تاريخه بإمبراطورية توازي الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، اجتاحته الإمبراطوريتان مرتين خلال القرن الماضي وحده. ألمانيا هي أكثر الدول الأوروبية الكبيرة التي تغيرت خارطتها تاريخيا بسبب الاحتلال أو التقسيم أو كليهما معا.
الفرنسيون واليونانيون والألمان يرون الاتحاد الأوروبي قشة أخيرة يمكنهم التعلق بها خشية الانزلاق مرة أخرى في هذا المصير الأسود.
البريطانيون يفكرون بطريقة مختلفة. الأزمة الاقتصادية المتزامنة مع التراجع السياسي الكبير لصالح الولايات المتحدة التي تسلمت قيادة العالم للتوّ، كانت سببا رئيسيا لإلحاح بريطانيا من أجل الانضمام إلى الجماعة الاقتصادية الأوروبية ثلاث مرات، إلى أن انضمت فعليا عام 1973.
مع الوقت صار الاقتصاد البريطاني الأسرع نموا في أوروبا كلها. بمجرد تحسن الاقتصاد، فتر حماس البريطانيين، وبدأ الحديث عن ترك أوروبا يكتسب زخما سياسيا وشعبيا واسعا.
مع توقيع معاهدة ماستريخت التي كانت مقدمة لارتقاء أوروبا إلى دولة حقيقية، تحولت “قناة الاتصال” مع أوروبا في ذهن البريطانيين إلى سور مرتفع للاحتماء منها.
هل البريطانيون محقون فعلا في ريبتهم تجاه أوروبا؟ هل كان ثمة ما يستحق هذه القفزة التاريخية ببريطانيا وأوروبا كلها إلى الظلام؟
هذا السؤال يبدو عبثيا الآن بعد أن حرقت ماي كل مراكب العودة. المشكلة على الجانب الآخر من القناة أن ثمة عقلية أوروبية دائما ما قامت على التوغل. دينيا أو عسكريا أو اقتصاديا، المهم أن أوروبا دائما ما كانت تحاول ابتلاع كل شيء أمامها.
عام 1534 لم يكن السبب الوحيد وراء قرار ملك إنكلترا هنري الثامن بالقطيعة مع روما هو فقط رغبته في الحصول على إذن من بابا الكاثوليك، الذي كانت إنكلترا وويلز تتبعه حينذاك، للطلاق من الملكة كاثرين. كانت محاولات الكنيسة فرض هيمنتها السياسية بشكل يعلو فوق السيادة البريطانية أحد الأسباب الحقيقية. الرد كان إعلان البرلمان الملك هنري الثامن رأسا لكنيسة إنكلترا، ومنحه صلاحيات دينية واسعة ستظل جزءا من مهام الملك إلى اليوم. هذه الخطوة أظهرت مدى تأثير المحافظين المتشددين، الذين كان يمثلهم آنذاك الوزير الأول توماس كرومويل، في التحكم تاريخيا بهذا البلد.
انسحاب بريطانيا من الكنيسة الكاثوليكية كان مقدمة لسلسلة من الحروب في أوروبا استمرت حتى القرن التاسع عشر. اليوم حروب الانفصال عن أوروبا ليست عسكرية، بل تجارية.
هل البريطانيون محقون فعلا في ريبتهم تجاه أوروبا؟ هل كان ثمة ما يستحق هذه القفزة التاريخية ببريطانيا وأوروبا كلها إلى الظلام؟
حروب تجارية
عندما كان الدين هو محور حياة الناس، كان السلاح هو أداة انتقام كل طرف من الآخر. محور الحياة في أوروبا اليوم هو الاقتصاد، وأداة حصار بريطانيا هي التجارة. أدوات العقاب اليوم لم تعد البنادق والمدافع والطائرات، بل صارت الرسوم الجمركية والاستثمارات ومنع مرور الناس والبضائع.
ليس في استطاعة تيريزا ماي المغامرة بأرزاق الناس. ثمة حجم هائل للتبادل التجاري بين الجانبين. بريطانيا تستورد ما يقرب من 17 بالمئة من حجم البضائع والخدمات التي يصدرها الاتحاد الأوروبي بأكمله، وباقي الدول الأوروبية تستورد بما يعادل 230 مليار جنيه إسترليني من البضائع البريطانية. هذا يشكل 12 بالمئة من حجم الاقتصاد البريطاني في المجمل.
البريطانيون لا يريدون خسارة السوق الأوروبية. الأوروبيون يعرفون ذلك جيدا، لذلك كان اشتراطهم أن يحقق الجانبان تقدما ملموسا أولا في مفاوضات الخروج، كي يبدآن في الحديث عن العلاقات المستقبلية بينهما.
ثمة إحساس بأن أوروبا تريد تأديب بريطانيا، خشية من تكرار تجربتها في دول أوروبية أخرى، لكن هناك تردد في فعل ذلك، لأن لوما بات ينصب على اليسار الليبرالي الذي مازال يحكم في ألمانيا وفرنسا وهولندا وغيرها.
اليوم يتساءل الأوروبيون ما إذا كان الأمر ليصبح مختلفا لو أن اليمين هو من تولى المفاوضات الأولى مع بريطانيا. لو افترضنا مثلا أن نيكولا ساركوزي هو من تولى التفاوض مع ديفيد كاميرون قبل نحو عامين من الآن، ألم يكن الوضع قد اختلف؟
كثيرون يقولون إن أوروبا لم تكن وقتها لتمانع التوصل إلى اتفاق جديد مع البريطانيين بعد الاستفتاء، ما يدفعهم إلى إجراء استفتاء آخر يعدل المسار.
هؤلاء ليس لديهم القدرة على استيعاب أن المشكلة الأساسية لخروج الأوروبيين من الاتحاد هي الشعور المتزايد بالقومية وبالهوية الوطنية، وليست المشكلة هي الرسوم ولا التجارة.
تشبيه كين كلارك، أحد كبار حزب المحافظين، لبريكست بغزو العراق كقضية خارجية تحظى بتوافق وقتي قبل ظهور تبعاتها الكارثية في المستقبل، تشبيه قاصر. هذه ليست قضية أجمع الناس على دعمها، هذه قضية صوت الناس على دعمها.
هذا الفرق الكبير بين الحقيقتين هو انعكاس لواقع أن العقلية البريطانية ليست وحدها التي تغيرت، بل تغيرت أيضا الجغرافيا السياسية في أوروبا كلها.
بعدما أصبحت فرنسا هي القوة العسكرية والنووية والسياسية الكبرى في الاتحاد، سيكون على ألمانيا مراجعة رؤيتها لدورها السياسي المتحفظ. على السياسيين الألمان استيعاب أن خروج بريطانيا من الاتحاد لن يضعفها هي فقط، لكن سيضعف ألمانيا كثيرا أيضا.
ألمانيا على وجه الخصوص كانت تكتسب قوتها وقت تمدد الاتحاد. في كل مرة تنضم فيها دولة جديدة إلى صفوفه، كانت تضيف المزيد إلى المركزية الألمانية، كعمود اقتصادي تقوم عليه مظلة الحماية لقوت الأوروبيين وأرزاقهم.
لم يعد هناك مفر من التخلي تدريجيا عن هذه المركزية المبالغ فيها لصالح قوى أخرى في القارة، كما بات إجباريا التوقف عن المزيد من التمدد شرقا.
المعادلة الأوروبية الجديدة ستكون: الاقتصاد بحوزة ألمانيا والدفاع في يد فرنسا. إنشاء جيش أوروبي ينافس الناتو بات ضرورة للهروب من رؤية أميركية لا تؤمن بالناتو ولا بالاتحاد نفسه، خصوصا بعد إحياء معسكر “الإنغلوساكسون” على ضفتي الأطلسي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد.
على أوروبا أن تفهم أنها تغيرت، وعليها أن تتصرف بشكل عاقل على هذا الأساس. أي خلل في استيعاب هذه المعادلة الجديدة سيقود حتما إلى انتهاء المشروع الأوروبي برمته.
أول بوادر “عقلنة أوروبا” هو فهم أن عدم استيعاب البريطانيين أبدا أنهم جزء من أوروبا لم يكن خطأهم وحدهم، بل كان خطأ الأوروبيين أيضا. تدارك هذا الخطأ مع دول أخرى تفكر في الخروج مازال ممكنا لتفادي أسوار مرتفعة أخرى، هذه المرة لا تفصل أوروبا عن الجانب الآخر من القناة، لكنها ستقسم الاتحاد فوق اليابسة الأوروبية نفسها.
العرب أحمد أبو دوح