كانت ولاتزال مهنة المسحراتي إحدى المباهج الروحية، تبدأ تلك المهنة مع هلَّ هلال رمضان شهر الصوم شهر البركة والخير، تزدحم فيه الضحكات وتمتلئ الأنفس بالرحمات، وكجمال هلاله ونوره أشرقت النفوس به مستبشرة، تتآلف به القلوب فرحةً وترقب سعادة الكبير والصغير وعادات باتت من التراث الإسلامي الجميل.. من إحدى تلك العادات مهنة المسحراتي التي لم تكن مهنة فحسب بل تقليدا.. فيه من البهجة ما فيه.
يشعر “أبي جلال” بسعادة كبيرة حين يُردد في كل ليلة بحدود الساعة الواحدة والنصف حتى توقيت الإمساك، الشعائر مثل “إصح يا نايم وحّد الدايم.. وقول نويت بكرا إن حييت.. الشهر صايم والفجر قايم ورمضان كريم”.
ذاك المسحراتي المشتعل بالرأس شيباً وكذا اللحية بياضاً، يستيقظ في وقت السحر ينشد بصوته ترانيم التهليل والتحميد ويذكر الناس بذكر الله ويوقظ النائم عن السحور، يقف الأولاد بفرحة على أبواب وشرفات منازلهم بترقب وشوق ليروا هذا الشخص مجهول الهوية الذي ينشد بعتمة الليل يحمل طبله الصغير، وفي دعابة لطيفة من الأهالي يتعمدون عدم معرفتهم شخص المسحراتي رغم درايتهم به، فهو ابن البلد وأحيانا نفس الحي، كنوع من التشويق للأولاد وإضفاء جوٍ من المرح على ليالي الشهر الفضيل.
لم تكن فرحة “أبي جلال” الوحيدة بعودة مهنته القديمة التي كسبها من أجداده بل فرحة أهالي الحي بعودة طقوس مشوقة أكثر لطالما ألفوها من الصغر وانقطعت منذ سنين الحرب وسط خوف وحرمان من أبسط الحقوق المدنية.
تنوعت أناشيد المسحراتي وتعددت.. اتفقت بحين واختلفت بحين آخر بين البلدان العربية، فلكل بلد هويته الخاصة به على الرغم من وحدة “إجا رمضان يزوركن” إلا أن الثورة السورية أضفت على هذه الأناشيد روحا ثورية جديدة فغيرت بألفاظ الأنشودة فباتت “يا نايم قوم وحد الدايم والله بشار مو دايم.. وحدو ربك هو الدايم” وغيرها من أناشيد تحمل في طياتها الروح الثورية مع طابع ترنيمي محبب لدى الأطفال والكبار.
يتحسر “أبو جلال” على ما وصلت إليه الأمور في المنطقة ويكشف عن حزن دفين في الصدر قائلاً ” سابقاً كنا نخرج مجموعة نردد التراتيل والأغاني الخفيفة لإيقاظ النائمين، لكن اليوم الهجرة أثرت على كل شيء فأغلب رفاقي أصبحوا في الخارج ووجدت نفسي وحيداً، عداك على من بات تحت التراب”.
عن الواقع الجديد يتابع المسحراتي “كنت أعرف سكان بعض البيوت، لكني سنويا أتفاجأ حين أرن جرس باب أحد البيوت بتبدل ساكنيه وقاطنيه، وهجرة مالكيه الأصليين، ومنهم لا يستطيع شراء وجبة للسحور في ظل الظروف الصعبة فيطلب مني ألا أعيد الكرة مرة ثانية، وبعضهم استبدل وظيفة المسحر بمنبه الموبابل”
لطالما كانت الأحياء في مدينة إدلب تعجّ بالأهالي والأسر التي تنتظر صوت المسحراتي، لكن تغيير التركيبة السكانية سواء من حيث العدد، أو من حيث الاختلاط مع النازحين من باقي المحافظات غير الكثير من العادات والتقاليد، لتلك المدينة.
يعود المسحراتي “أبي جلال” متجولاً في حارات المدينة وبكلماته المعتادة يردد “اجا رمضان يزوركن.. فيقوا يا نايمين لسحوركم”.
المركز الصحفي السوري – بيان الأحمد