مع استمرار قصف قوات النظامين، السوري والروسي، على حلب، تعيدنا المشاهد الدامية في المنطقة إلى مساء السادس عشر من مارس/ آذار الماضي، حينما ضجت الوكالات العالمية ومواقع التواصل الاجتماعي بخبر فاجأ الجميع، وانتشر صداه خلال دقائق، وهو أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أوعز لقواته في سورية بالانسحاب، وبشكل مفاجئ وغير متوقع. وكان ذلك بعد حوالي ستة أشهر من تدخل القوات العسكرية الروسية في الأراضي السورية، وبدء عملياتها هناك بزعم محاربة الإرهاب، “الشماعة” التي باتت تلقى عليها كل الحروب والمجازر بلا حسيب ولا رقيب، حيث قالت موسكو، آنذاك، إنها تمهد الطريق إلى تسوية سياسية، ولن تنهي مهامها قبل القضاء نهائياً على تنظيم الدولة الإسلامية، وجبهة النصرة، وغيرهما من الجماعات المعارضة للنظام.
وقد صدر قرار الانسحاب، عقب اجتماع بوتين مع وزيري الدفاع والخارجية، سيرغي شويغو وسيرغي لافروف، والذي وضح فيه أن تدخلهم العسكري حقق غاياته إلى حدٍ كبير، وحان الوقت للمغادرة، كما أعلن الكرملين أن الخطوة جاءت بالتنسيق مع رئيس النظام السوري، بشار الأسد، وعلى درايةٍ تامةٍ منه. لكن تصديق هذه التصريحات ببراءة مطلقة ما هو إلا سذاجة في الفهم السياسي، فقد بدا موقف بوتين المباغت، وكأنه أفاق من قيلولته فجأةً، ليجد أن موسكو حققت مبتغاها، وقضت على الإرهاب في سورية، وأعادت السلام إلى البلاد، فارتأت حينها ضرورة الانسحاب السريع، بالاتفاق الودّي بينها وبين الأسد.
ليس هذا الكلام منطقياً، حيث أن دولة مثل روسيا يستحيل لها التراجع عن قرار عسكري بهذه الضخامة، من دون أن يكون لها مبررات تصب، في نهاية المطاف، لصالحها، وتدعم أهدافها التي تداريها خلف ستار التسوية. والمؤكد أن موسكو لن تتخلى يوماً عن سورية، ولا بأي حال، فهي تتطلع دائماً إلى تأمين الدولة الساحلية، والتي تعتبر نصيبها الوحيد في الشرق الأوسط، وقاعدتها الأخيرة على البحر الأبيض، بوجود الأسد أو برحيله.
وتمثيلاً على هذا الكلام، لم يكن الانسحاب كلياً ولا شاملاً جميع المناطق، فلا زالت موسكو متمسكة بوجود قواعدها العسكرية في حميميم وطرطوس وغيرهما، من أجل الحفاظ على الخطوات التقدمية التي أنجزتها في مرحلة وجودها في الأراضي السورية.
ربما كانت هناك مبررات منطقية وراء “الانسحاب الشكلي” إن صح التعبير، أهمها تكاليف الحرب الباهظة على دمشق، والتي تخسر موسكو بسببها ثلاثة ملايين دولار يومياً، بالإضافة إلى سعي روسيا إلى الحد من عملياتها العسكرية، وهي في ذروة نجاحها، لتبدو قوة عالمية أمام الدول الأخرى.
صحيح أن جل وسائل الإعلام عجت بتحليلات عديدة ومنوعة، تناولت هذه القضية من زوايا متعددة، لكنها تغافلت، في الوقت نفسه، عن ماهية الانسحاب وحقيقة وجوده من الأساس.
والحقيقة أن أضحوكة الانسحاب لم تكن سوى “فرقعة إعلامية”؛ فبعد شهر ونصف على مرور الحادثة، نجد أنها كانت مجرد تخفيض محدود لوجود القوات الروسية، لاستخدامها ورقة حسن نية تطرح على طاولة المفاوضات، بهدف التوصل إلى حل يُنهي الأزمة السورية لصالحها.
وهذا يسوقنا إلى الهدف الرئيسي خلف مطالبات بوتين المفاجئة، وهو محاولة إظهار بلاده على هيئة “حلّال المشاكل”، وإخراجها من دائرة الاتهام.
حسناً، تراجعت أعداد الطلعات الجوية من قاعدة حميميم العسكرية، لكن موسكو لا زالت تلعب دوراً كبيراً في ساحة المعركة السورية، بالإضافة إلى تأكيد روسيا على استمرار وجودها العسكري في المنطقة، فهي تدعم دمشق منذ بداية الانسحاب، وتساعدها في تحقيق انتصارات عديدة ضد المعارضة وداعش. كما أن وجود القاعدتين العسكريتين، مع السيطرة البحرية والجوية لجيش بوتين، ينذر بإمكانية استعادة زخم القوات الروسية في أي وقت.
وها هي موسكو تعود، بعد انسحابها المزعوم، لتشد على أيادي النظام وتؤازره بكل ما يحدث حالياً في المدن السورية، علاوة على استمرار استهداف غارات الطائرات الروسية جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية في حلب، وغيرها من المناطق، والتي يذهب ضحيتها عشرات المدنيين يومياً، فمن المستفيد من الضجة الإعلامية الكاذبة التي اكتسحت المواقع الإخبارية بفرضيات الانسحاب وتحليلاته، ثم نكتشف أنه لم يحدث.
العربي الجديد