وباتت جيبوتي الواقعة على الشاطئ الغربي لمضيق باب المندب بمثابة ثكنة عسكرية، بحسب ديفيد بروستر، الخبير في الشؤون العسكرية بجامعة الدفاع الوطني الأسترالية، والذي قال في فبراير/شباط الماضي ضمن تعليق له على موقع التفكير الاستراتيجي في شرق أفريقيا، أن جيبوتي تستضيف قوات، قواعد بحرية وعسكرية من فرنسا والولايات المتحدة واليابان وإيطاليا والصين والسعودية.
توثيق أممي
يؤكد تقرير مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان الصادر عن الفريق المعني بالاستعراض الدوري الشامل/الدورة الثلاثون لمجلس حقوق الإنسان في مايو/أيار الماضي، على انتشار حالات التهديد والمضايقة والتخويف التي يتعرض لها المدافعون عن حقوق الإنسان والصحافيون على أيدي الشرطة وسلطات الأمن والسلطات العسكرية، وسوء معاملة المحتجزين على أيدي الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون، في ظل نقص التدابير التي اتخذتها جيبوتي لإجراء تحقيق شامل في ما زعم عن حالات التعذيب وغيرها من ضروب المعاملة القاسية، وسوء المعاملة وملاحقة الجناة، بحسب التقرير ذاته.
واتسمت الانتهاكات المتكررة للحقوق المدنية والسياسية في جيبوتي بقمع شديد للمعارضة بحسب نمار، التي أكدت أن الأرقام المقدمة من السلطات الجيبوتية إلى لجنة مناهضة التعذيب التابعة لمجلس حقوق الإنسان في جنيف في عام 2011 تشير إلى احتجاز حوالي 600 شخص في سجن غابودي، من بينهم 54% سجناء احتياط و46% سجناء مدانون منذ الأول من يوليو/ تموز 2009.
ويتعرض السجناء في أماكن الاحتجاز للتعذيب وسوء المعاملة، فضلا عن ممارسة أعمال انتقامية ضد المعارضين السياسيين والنشطاء والصحافيين والمدونين والحقوقيين، وفق إجماع شبكة المدافعين عن حقوق الإنسان في شرق القرن الأفريقي (منظمة إقليمية مقرها أوغندا)، والتحالف العالمي لمشاركة المواطنين “سيفيكوس” (تجمع عالمي لمنظمات حقوقية وناشطين يهدف إلى تعزيز مشاركة المواطنين)، والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان “FIDH” (منظمة دولية مقرها فرنسا)، والمرصد الجيبوتي للنهوض بالديمقراطية وحقوق الإنسان (منظمة جيبوتية مستقلة).
ومن بين أهم الانتهاكات التي لا يزال الجيبوتيون يتذكرونها ويطالبون بشكل مستمر بمحاسبة مرتكبيها حتى اليوم، مجزرة حي “بلطقو” الفقير، بمنطقة بلبالا في العاصمة جيبوتي التي وقعت في 21 ديسمبر/كانون الأول 2015، عندما احتشدت مجموعة من أتباع الشيخ يونس موسى في احتفال ديني بذكراه السنوية، رفضت الحكومة تنظيمه، ففتحت قوات الأمن النار على المشاركين، ما أدى إلى مقتل 27 شخصا وإصابة 150 واعتقال آخرين، بينما لا يزال عدد آخر في عداد المفقودين، وفقا لبيانات الرابطة الجيبوتية لحقوق الإنسان، ومنذ 12 مايو/أيار 2016 أوصى قرار البرلمان الأوروبي رقم 269 والصادر بشأن حالة حقوق الإنسان في جيبوتي، بفتح تحقيق كامل ومستقل في هذه المجزرة، وهو ما أكده تقرير مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الانسان في مايو/أيار 2018، الذي عبّر عن قلقه البالغ إزاء الادعاءات المتعلقة بالاستخدام المفرط والعشوائي للقوة بما في ذلك استخدام قوات الأمن الجيبوتية للأسلحة النارية التي تطلق رصاصا حقيقيا.
غطاء دولي
استفادت جيبوتي من صمت عالمي وتجاهل حلفائها عدم تنفيذ التزاماتها الدولية في مجال حقوق الإنسان بحسب المسؤولة القانونية بمؤسسة الكرامة نمار، والتي وصفت الوضع قائلة “واضح من التجاهل الحاصل أن الدول القوية تضع مصالحها الأمنية قبل مصلحة الجيبوتيين”.
وهو ما يؤكده الباحث في مجال القانون بجامعة لندن (SOAS) أحمد حسين آدم، والذي يصف جيبوتي بأنها “قاعدة عسكرية أجنبية كبيرة”، إذ إنها مقر العديد من القواعد العسكرية لقوى الغرب والشرق، والنظام السياسي يعتمد على حماية نفسه وشرعيته واستمراره على هذا الوجود العسكري المكثف، الذي ليس عليه رقابة من الاتحاد الأفريقي، أو من أي منظمة إقليمية”، مضيفا أن “النظام الجيبوتي واثق من الحصانة التي توفرها له هذه الدول الموجودة على أرضه عسكريا واستخباريّا، مستغلة الميزات الجيوسياسية الاستثنائية على البحر الأحمر ومنطقة القرن الأفريقي، فنظامها يعتبر صديقا للدول الغربية التي تغض الطرف عن انتهاكه حقوق الإنسان”.
وتدفع الولايات المتحدة 63 مليون دولار سنوياً لجيبوتي، نظير تأجير قاعدتها هناك، في حين أن الصينيين يدفعون 20 مليون دولار سنوياً إلى جانب المليارات التي يستثمرونها في بناء خط سكة حديد، وميناء، ومجمع صناعي، وبنوك، بحسب مقال منشور للصحافي المتخصص في شؤون القرن الافريقي، عبد اللطيف ضاهر على موقع كورتزافريكا (نسخة أفريقية للموقع العالمي المختص في الأعمال ومقره نيويورك ولندن) في أغسطس/آب 2017.
وتجني نحو ربع مليار دولار سنويا، مقابل تأجير أراض لقواعد عسكرية، ناهيك عن المساعدات الإنمائية رسمية(ODA)، المقدمة لجيبوتي بين عامي 2010 و2013، البالغة 10.1 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي وأكثر من 522 مليون دولار من جهات مانحة أخرى أبلغت عنها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (منظمة دولية تأسست عام 1961 وتضم الدول التي تؤمن باقتصاد السوق والديمقراطية) وفقا للباحثين في جامعة كولومبيا الأميركية، رينانا مايلز وبرين بلانكشب في مقالة لهما نشرت بعنوان “جيبوتي الأولى ولكن هل هي الأخيرة” على موقع لوفير (مدونة معنية بقضايا الأمن القومي الأميركي) في يناير/كانون الثاني 2016.
فقر مدقع
بالرغم من تدفق المعونات إلى جيبوتي، فضلا عن العائدات المتأتية من تأجير الموانئ والقواعد العسكرية، إلا أن الجيبوتيين يعيشون في فقر مدقع بحسب إحصاء صادر عن البنك الدولي في إبريل/نيسان الماضي، إذ إن أكثر من 23% من سكان البلاد المقدر بـ1.865 مليون نسمة يعيشون تحت الفقر المدقع، وخُمس السكان لا يزالون يعيشون تحت خط الفقر العالمي، بينما يصل الناتج الإجمالي المحلي إلى نحو 1.76 مليار وفق تقديرات البنك الدولي لعام 2016.
واحتلت جيبوتي المركز الثالث عربيا والمركز رقم 100 عالميّا في “مؤشر الجوع العالمي لعام 2017” والذي يقيس الافتقار إلى الغذاء والطعام وفق معايير محددة، ويصدره المركز الدولي لبحوث السياسات الغذائية، ويؤكد فريق الأمم المتحدة المعني بجيبوتي أن الزيادة في نمو الناتج المحلي الإجمالي لجيبوتي نتيجة الاستثمار في قطاع الخدمات ليس لها تأثير للحد من الفقر، فقد توقفت مستويات الفقر النسبي والمطلق على الصعيد الوطني عند 79.4% و41.9% في عام 2012 بحسب تقرير مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان الصادر في مايو/أيار 2018 والذي أوصى جيبوتي بتحسين ما لديها من آليات التنسيق وبتشجيع القطاع الخاص وفق إطار قانوني ومؤسسي مناسب.
وضمن السياق ذاته أعربت اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عن أسفها، لأن استراتيجيات الحد من الفقر والفقر المدقع لم تخفّض حدوث الفقر والفقر المدقع في جيبوتي بحسب التقرير ذاته.
توصيات لم تنفذ
أعربت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في تقريرها لمجلس حقوق الإنسان بجنيف في مايو الماضي عن أسفها لاستمرار جيبوتي في إنكار التقارير التي تفيد بسوء معاملة المحتجزين وعدم اتخاذ أي تدابير لتنفيذ توصيات اللجنة بشأن هذه المسألة، ودعت إلى حثها على إجراء تحقيقات نزيهة في جميع الادعاءات المتعلقة بالانتهاكات الخطرة لحقوق الإنسان وفقا لتقرير مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان.
وتقول الحقوقية خديجة نمار: “حكومة جيبوتي لم تلتزم بتنفيذ توصيات دورة المراجعة السابقة، لأن السلطات ليس لديها أي إرادة سياسية، أو حافز للقيام بذلك”، مضيفة أن الحق في تعويض ضحايا الانتهاكات الشديدة في البلاد لا يحظى عادة بالاحترام، ولا يتم القبض على الذين يرتكبون هذه الانتهاكات، ولا يوجد أي تحقيق مستقل حول الحقائق”.
ولم يبد الوفد الجيبوتي أي نية في الالتزام بتحسين سجل البلاد في مجال حقوق الإنسان، ووقف الانتهاكات هناك خلال مداولات جلسات مجلس حقوق الإنسان بحسب نمار، مشيرة إلى أن منظمتها شددت على ضرورة مصادقة جيبوتي على الصكوك الدولية التي من شأنها منع ووضع حد لهذه الانتهاكات.
وبالعودة إلى مداولات جلسات الاستعراض الدوري الشامل (وهو آلية لمراجعة أوضاع حقوق الإنسان) لجيبوتي أمام مجلس حقوق الإنسان بفي نيف، والتي جرت بين 18 يونيو/حزيران و6 يوليو/تموز الماضيين، أثارت المنظمات الحقوقية عدم التزام الحكومة الجيبوتية بإنفاذ ما جاء في التوصيات السابقة، وأحصت البيانات الصادرة عن هذه المنظمات الحقوقية نحو 14 توصية لم تنفذ من قبل حكومة جيبوتي، إذ ظلت تصدر منذ أول دورة مراجعة بالمجلس في إبريل/نيسان2013، منها التحقيق في ادعاءات التعذيب وسوء المعاملة ومقاضاة الجناة، وتحسين ظروف الاحتجاز وإنهاء الاحتجاز من دون محاكمة وتوفير الحق في المحاكمة العادلة، وضمان حرية التجمع والتظاهر السلمي والتنظيم، وحرية الصحافة، وتحسين الإطار القانوني لممارسات حقوق الإنسان، والمصادقة على الصكوك الدولية لحماية حقوق الإنسان، لتستمر معاناة الجيبوتيين من أوضاع مزرية حقوقيا واقتصاديا.
نقلا عن العربي الجديد