انتصر الشعب التركي بأحزابه ونخبه السياسية لنظامه الديموقراطي، وخرج لنجدة رئيسه المنتخب ومؤسسات السلطة في وجه الانقلاب العسكري الفاشل. يجب أن يسجّل هذا الانتصار للأتراك ولأحزابهم، العلمانية والكردية والإسلامية، التي اختارت الوقوف الى جانب الحكم المدني، على رغم تحفظات معظم هذه الفئات والأحزاب على كثير من التصرفات الفوقية لرجب طيب اردوغان والمفتقرة الى الحس الديموقراطي.
لكن هذا الانتصار يجب أن لا ينسينا كذلك أن تركيا اليوم لم تعد تركيا الثمانينات من القرن الماضي، التي كان يتاح فيها لجنرال في الجيش مثل كنعان ايفرين أن يحلّ الأحزاب ويمنع الانتخابات ويقمع الحريات ويلقي المعارضين في السجون. وهي مرحلة عانت منها كل الأحزاب، وعانى منها العمل السياسي في تركيا، ولا تزال عالقة في ذاكرة الكثيرين.
لم تكن هناك أي فرصة لنجاح هذا الانقلاب العسكري، الذي تم تشبيهه عن حق بالمسرحية. ليس فقط لأن فئة قليلة داخل الجيش دعمت الانقلاب (حوالى 3 آلاف من أصل نصف مليون بين ضابط وجندي)، ولا لأن هذا الانقلاب الفاشل لم يحصل على أي غطاء من كبار قادة الجيش وهيئة أركانه، بل فوق ذلك لأن هناك إجماعاً شعبياً في تركيا على احترام العملية الديموقراطية، بصرف النظر عن الملاحظات على نتائجها، وهو الإجماع الذي كان وراء اندفاع قسم كبير من الذين نزلوا الى ساحات انقرة وإسطنبول وغيرهما من المدن التركية، رافعين علم بلادهم، واقفين في وجه الدبابات الانقلابية، ومعرّضين أنفسهم للموت في سبيل الدفاع عن موقفهم هذا.
لهذا يخطئ أردوغان كثيراً إذا أساء قراءة ما حصل ليل الجمعة الماضية، وإذا استنتج أن فشل الانقلاب هو انتصار لشخصه هو وليس لتركيا ولمؤسساتها وللتحول الديموقراطي العميق الذي حصل في مجتمعها. إذ إن الأحزاب المعارضة التي عانت كثيراً من أسلوب اردوغان التسلطي في إدارة الدولة، بل حتى قادة حزبه ذاته الذين يشكون من هذا الأسلوب، كما هي حال الرئيس السابق عبدالله غل ورئيس الحكومة السابق أحمد داود اوغلو، حتى هؤلاء لم يعتبروا الانقلاب فرصة لهم لابتزاز اردوغان أو للانتقام منه من طريق ممالأة العسكريين الانقلابيين.
كل ما هو معروف عن سلوك اردوغان وعن طريقة تصرفه في وجه الحركات المعارضة يوحي بأن الرجل سيسلك طريقاً آخر. في أول رد فعل على فشل المحاولة الانقلابية، اعتبر هذا الفشل «فرصة من الله» لتطهير صفوف الجيش، متوعداً هو ورئيس حكومته بن علي يلديريم الانقلابيين بدفع «ثمن غال»، حتى أن يلديريم هدّد بإعادة النظر في قانون العقوبات التركي الذي لا يتيح الحكم على هؤلاء بالإعدام. كما كان بين القرارات الأولى التي تم اتخاذها اعتقال عشرة من قضاة المحكمة العليا، وقد يتبعهم آخرون.
وليس مستبعداً أن يستمر هذا النهج «التنظيفي» ليشمل الطبقة السياسية والقضائية والحزبية، وربما المؤسسات الصحافية والإعلامية أيضاً، فضلاً طبعاً عن الجيش، إضافة الى الحرب المفتوحة مع الأكراد، بحيث يحاول اردوغان الإفادة من الفرصة التي أتاحها فشل الانقلاب ليعتبرها ضوءاً أخضر لاستكمال مشروع سيطرته على الدولة وتوسيع صلاحيات منصب الرئاسة، بحيث يحول النظام التركي من نظام برلماني الى نظام رئاسي، وذلك انطلاقاً من شعوره بأنه الأب الذي يعرف مصلحة أبنائه الأتراك أكثر من أي سياسي آخر!
طريق كهذا سيكون محفوفاً بالأخطار إذا سلكه الرئيس التركي، الذي لا يتوقع العارفون بعقليته وبطبيعة ردود فعله حيال منتقديه أن يسلك طريق الانفتاح والمصالحة.
من مصلحة اردوغان ومن مصلحة تركيا أن يتحول الالتفاف الوطني الذي ظهر حول الشرعية والمؤسسات السياسية المنتخبة فرصة لتوفير أكبر قدر من الإجماع حول المصلحة العليا للدولة، لا حول مصلحة شخص واحد أو حزب بعينه. ذلك أن السلوك الانتقامي لن يؤدي سوى الى زيادة الشرخ داخل المؤسسات، والذي كان الانقلاب الأخير أحد عوارضه.
الحياة – الياس حرفوش