تمكّنت قوات النظام السوري، خلال الأسابيع القليلة الماضية، مدعومةً بحلفائها الروس والإيرانيين، من تحقيق تقدمٍ على أكثر من جبهة ضد قوات المعارضة السورية. وترافق هذا التصعيد الميداني، من أجل تغيير الوقائع على الأرض، مع حركةٍ دبلوماسيةٍ أميركيةٍ كثيفة باتجاه موسكو، للتوصّل إلى اتفاقٍ للتنسيق العسكري والأمني مع روسيا في سورية، وذلك في إطار تحضيرات أميركية واسعة، لتوجيه ضربة كبيرة لتنظيم الدولة الإسلامية، تشمل سورية والعراق، قبل انتهاء ولاية الرئيس الأميركي باراك أوباما.
التطورات الميدانية
لا تزال خطط النظامِ وحلفائه تتركّز في شمال سورية على فرض حصار على الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة في مدينة حلب، وقطع طرق إمدادها مع تركيا وإعادة السيطرة على المعابر معها. ويحاول النظام بلوغ هذا الهدف، مستفيدًا من أربعة عوامل رئيسة هي:
1.الإسناد الجوي الروسي، ومحاولة روسيا الاستثمار في أيّ تقدمٍ لقوات النظام وحلفائه على الأرض، لتعزيز مواقفها التفاوضية مع واشنطن، بخصوص التوصّل إلى اتفاقٍ للتنسيق العسكري في سورية.
2.الإسناد البشري المعتمد على الدعم الإيراني، كقوات رسمية أو ميليشياوية؛ ما قلّص حدّة الأزمة في الموارد البشرية التي يعانيها النظام.
3.تركّز الاهتمام الدولي (الأميركي تحديدًا) على محاربة الإرهاب.
4.انحسار فرص أيّ تدخل تركي لمصلحة المعارضة في حلب، في ضوء المصالحة الأخيرة بين موسكو وأنقرة، وانشغال تركيا في ترتيب أوضاعها الداخلية بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة.
ولإنجاز حصار حلب، شنّت قواتُ النظام وحلفاؤها من مليشيا حزب الله اللبناني في مطلع يوليو/ تموز 2016 هجوماً تمكنت من خلاله السيطرة على شريطٍ من الأرض، مكّنها من الإشراف نارياً على طريق “الكاستيلو” الذي يعدّ المعبر الوحيد الرابط بين أحياء حلب الشرقية وتركيا، عبر محافظة إدلب. وتتفاوت نقاط السيطرة النارية لقوات النظام في اقترابها من الطريق المذكور بين 250 و400 متر، وعلى جبهةٍ عرضها نحو 2.5 كيلومتر، حيث تمركزت هذه القوات في منطقة الجرف الصخري المشرفة على الطريق، واستهدفته بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة؛ ما أدى إلى شلّ الحركة فيه بشكل كامل تقريبًا. كما شكّلت السيطرة على منطقة الملّاح الإستراتيجية المطلة على الطريق، خطوةً اضافيةً لتعزيز هذا “الإشراف” لتصبح مدينة حلب محاصرةً من جهاتها الأربع.
وعلى الرغم من أنّ المعارضة فشلت حتى الآن في استعادة السيطرة على هذه المنطقة، بما يسمح بإعادة فتح الطريق وفك الحصار عن حلب، فإنّ قدرة قوات النظام في الحفاظ عليها تبقى موضوع شكٍ، على الرغم من الدعم الجوي الروسي الكبير، وذلك نظراً لطبيعة المنطقة الجغرافية القاسية، وازدحام المباني فيها. كما أنّ قوات النظام لا تزال بحاجةٍ إلى تثبيت سيطرتها على مرتفع الشويحنة الإستراتيجي الذي لا يزال استهداف المعارضة له ممكناً. وفي بيئةٍ جغرافيةٍ واجتماعيةٍ غير صديقة، يبقى من غير المؤكد استمرار قدرة قوات النظام على تأمين نطاق حماية لميمنتها وميسرتها في اندفاعتها الحالية، والقيام أيضًا بصدّ هجماتٍ لقوات المعارضة في جبهات أخرى، خصوصاً في الريف الجنوبي الغربي لحلب، حيث يمكن للمعارضة أن تنفذ هجماتٍ باتجاه بلدة الحاضر، وكذلك في الريف الغربي للضغط على منطقة حلب الجديدة.
أما في غوطتي دمشق الشرقية والغربية، فقد استمر النظام في محاولات تحقيق تقدّم، خصوصاً بعد سيطرته على بلدة ميدعا في الغوطة الشرقية مطلع يوليو/ تموز الجاري، واتجاهه نحو بلدة حوش فارة، وفرض حصار على بلدة النشابية من الجنوب والشرق والشمال الشرقي، ما يعزّز إمكانية قطع خطوط الإمداد باتجاه البادية، ويعزّز قدرة النظام على شطر الغوطة الشرقية إلى شطرين، جنوبي يسيطر عليه، وشمالي محاصر بعد حرمانه من سلته الغذائية التي كانت توفّرها الأراضي الزراعية الخصبة في القسم الجنوبي.
أما في الغوطة الغربية، فقد تمكّنت قوات النظام بعد هجمةٍ شرسةٍ استخدمت فيها البراميل المتفجرة بكثافة غير مسبوقةٍ، فضلاً عن صواريخ أرض-أرض، من الوصول إلى طوق الأبنية في مدينة داريا الملاصقة لمطار المزّة العسكري، وقطع جميع الطرق التي كانت ممتدةً باتجاه الغرب، من خلال المزارع أو حتى باتجاه بلدة معضمية الشام. وتذهب معظم التقديرات الميدانية إلى أنّ النظام يُخطط لعملية عسكرية كبيرة، تستهدف محور مدينة حرستا الإستراتيجية في ريف دمشق، بهدف تأمين الجزء غير الآمن من طريق دمشق – حمص الدولي، وتأمين الحماية لضاحية الأسد الموالية الواقعة على الكتف الغربي للطريق عند مدخل دمشق الشمالي، وتستعد، بحسب المعطيات المتوفرة، وحدات من مليشيا ما يسمى “درع الوطن” للقيام بهذه العملية.
وتشير هذه المعطيات الميدانية إلى أنّ قوات النظام تسعى إلى تحقيق اختراقاتٍ على جبهاتٍ ظلت عصيةً عليها سنواتٍ، مستغلة هشاشة نظام المراقبة لاتفاق الهدنة الذي جرى التوصل إليه بين واشنطن وموسكو في فبراير/ شباط الماضي، وعدم وجود آليات محاسبة من جهة، كما تحاول، من جهة ثانية، استغلال الزمن المتاح قبل التوصل إلى اتفاق للتنسيق العسكري بين روسيا والولايات المتحدة، يحيّد القوة الجوية لقوات النظام، والتي لا تزال تعد نقطة قوةٍ مرجحة لها في الصراع. وفي المقابل، تتزايد التحدّيات التي تواجه المعارضة المسلحة التي شهدت اختلافات بينها في الغوطة الشرقية في دمشق، والتي استطاعت قوات النظام استثمارها للتقدّم، أو في حلب، حيث تتسم الجبهات بكثرة الخصوم من جهة (داعش، الأكراد، النظام وحلفاؤه)، وإطباق الحصار عليها من جهةٍ أخرى، فضلاً عن تداعيات الاتفاق الروسي -الأميركي المرتقب، والذي سيكون جيش الفتح مستهدفاً فيه بالتفكّك، باعتبار أن جبهة النصرة تشكل جزءًا رئيسًا فيه.
الاتفاق الروسي – الأميركي وانعكاساته
وفقًا للمسودة التي نشرتها صحيفة واشنطن بوست، وحملها وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، معه إلى موسكو، تسعى إدارة الرئيس أوباما إلى التوصل إلى اتفاقٍ مع روسيا لتنسيق عملياتهما العسكرية لضرب جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية، ويطلق عليها اسم “مجموعة التنفيذ المشتركة” (Joint Implementation Group – JIG) ومركزها العاصمة الأردنية عمّان، وتقوم من بين مهمات عديدة بالآتي:
1.وضع خريطة مشتركة للأراضي، مع التركيز على مناطق تمركز تشكيلات جبهة النصرة، تشمل المناطق القريبة من هذه التشكيلات، في موعدٍ لا يتجاوز خمسة أيام بعد تشكيل “مجموعة التنفيذ المشتركة”.
2.تبادل المعلومات الاستخباراتية، من أجل القيام بعمل عسكري ضد جبهة النصرة، تستهدف مقرّات القيادة ومعسكرات التدريب والمستودعات اللوجستية وخطوط الإمداد.
3.التعاون لتحديد الأهداف التي يمكن ضربها جوًا من القوات الروسية أو القوات الأميركية في المناطق التي توجد فيها “النصرة” بشكل كبير، والمناطق التي تهيمن فيها المعارضة مع احتمال وجود “النصرة” فيها. ويحدّد الخبراء الفنيون من الولايات المتحدة وروسيا الإحداثيات الجغرافية لهذه المناطق المعينة.
4.وقف العمليات العدائية الجوية للجيش السوري، ووقف تحليق طائراته في مناطق محدّدة، تم وصفها في الفقرة السابقة، ووضع آلياتٍ لمراقبة ذلك، مع اتخاذ قراراتٍ بشأن بعض الاستثناءات غير القتالية.
5.بعد الاتفاق على مجموعة الأهداف الأولية، يتم البدء بصورةٍ متزامنةٍ بما يلي:
• انطلاق الغارات الجوية الروسية والأميركية على أهداف جبهة النصرة المتفق عليها.
• وقف جميع أنشطة الجيش السوري في المناطق المعينة المتفق عليها مع وجود استثناءاتٍ مناسبةٍ لأغراض غير عسكرية.
• إذا كان النشاط العسكري السوري، أو الغارات الجوية، تتناقض مع الفقرات السابقة، يحق لأي من المشاركين الانسحاب من مجموعة التنفيذ المشتركة.
• تستمر وتتواصل عملية تحديد الأهداف من مجموعة التنفيذ المشتركة، ومعها الغارات الجوية ضد أهداف “النصرة”، من طرف القوات الروسية والأميركية، ويتمّ تبادل المعلومات حول تأثير استهداف “النصرة”، وتطورات الوضع على الأرض.
• مع توقّع حدوث تهديداتٍ وشيكة على الولايات المتحدة أو روسيا عند الاتفاق على هدفٍ غير مجدٍ، فإن الولايات المتحدة وروسيا لن تقوما بأي عملٍ إلا ضد أهداف جبهة النصرة التي تم الاتفاق عليها مقدّماً، ووفقاً للإجراءات المناسبة من خلال قنوات التواصل الموجودة.
ملاحظات على الاتفاق
تعتري هذا الاتفاق ثغرات عديدة، أهمها تشويه الصراع السوري، بالتركيز على بعض نتائجه (الإرهاب)، كما أنّ العديد من فقراته تحتمل التأويل، فعلى سبيل المثال:
1. توفر بعض فقرات الاتفاق مساحةً واسعةً للمناورة والتنصّل، خصوصاً في ما يتعلق بالاستثناءات التي يُبرّر فيها للنظام قصف مناطق المعارضة، فضلاً عن عدم وضوح آليات محاسبة النظام بسبب عدم المثول للاتفاق.
2. إرجاء الآليات التنفيذية لضرب جبهة النصرة للجنة مختصة؛ واستمرار الحذر في تبادل المعلومات الأمنية، الأمر الذي يهيّئ الفرصة لتفسيراتٍ وخروقٍ سيعمل الجانب الروسي والنظام وحلفاؤه من المليشيات على تعميقها واستثمارها.
3. لا يأتي هذا الاتفاق على ذكر المليشيات الأجنبية ذات الخطاب والسلوك الطائفي التي تقاتل إلى جانب النظام، بينما أعاد التأكيد على ضرورة قيام الحلفاء الإقليميين بالمساعدة في الحؤول دون تدفق المقاتلين والأسلحة أو الدعم المالي للجماعات التي تعدّها الأمم المتحدة إرهابيةً، أو تلك المرشحة لتصنيفها إرهابية، ولا تزال محل خلاف دولي.
4. يسمح الاتفاق باستخدام مصادر استطلاع ومراقبة واستخبارات إضافية لدعم فحص الأهداف المحتملة، الأمر الذي يؤهل النظام لتقديم أوراق اعتماده في هذا التنسيق، ومن ثمّ تعزيز مداخل الشرعية السياسية الدولية من بوابة “مكافحة الإرهاب”.
5. لا يرد في نص الاتفاق الذي نشرته “واشنطن بوست” أي إشارةٍ إلى المسار السياسي أو عملية الانتقال السياسي، كما حدّدها قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254، أو المقابل الذي تطالب به واشنطن، ويترتب على موسكو تقديمه للموافقة على التنسيق العسكري والأمني معها في سورية، ما يعزّز المخاوف إذا ما أخذنا في الحسبان أيضًا التطورات الميدانية الأخيرة من اتجاه الأمور نحو مزيدٍ من إضعاف قوى المعارضة السورية، ودفعها إلى القبول بتسويةٍ لا تحقّق شروط الحد الأدنى لوقف الصراع وقيام الحل السياسي المنشود.
6. هناك مخاوف من أن يُستخدم الاتفاق مدخلاً لتدمير البنية العسكرية للمعارضة السورية، لا سيما في محافظات إدلب وريف دمشق وحلب، حيث يوجد مقاتلو “النصرة” جنبًا إلى جنب مع مقاتلي فصائل المعارضة الأخرى. وسوف يؤدي الاتفاق في إدلب ومناطق ريف حلب الجنوبي الغربي تحديدًا، إلى تفكيك غرفة عمليات جيش الفتح الذي ستترتب على فصائله حسم قضية التعامل والتعاون مع جبهة النصرة وفك الارتباط بأي غرفة عمليات مشتركة، توجد فيها “النصرة”، وهو أمر سيُفرز تضارباً في الأولويات والسلوكيات بين مكونات هذه الغرفة وعملياتها التي كان لها الدور الأكبر في صدّ هجمات النظام وحلفائه، ومنعهم من تحقيق انتصار ميداني في جبهات مختلفة.
خاتمة
في ظل عدم وجود آلية واضحةٍ، تضمن استثناءها من أي غارات جوية روسية – أميركية مشتركة، واحتمال استغلال قوات النظام وحلفائه الحملة الجوية المشتركة لملء الفراغ الناجم المحتمل عن ضرب “النصرة” من جهة، وعدم وجود ضماناتٍ حقيقة للبدء بعملية انتقالية حقيقية من جهة أخرى، تتزايد فرص تقويض المعارضة وتصفية القضية السورية، خصوصاً مع استمرار روسيا في تطويع الصراع في سورية، لخدمة مصالحها الجيوسياسية التي تبدو وثيقة الصلة ببقاء النظام، والقضاء على كل الفصائل والجماعات التي تعارضه، بغض النظر عن أهدافها وتوجهاتها، وفي ظل انحسار الإستراتيجية الأميركية في المنطقة والعالم إلى مجرد مواجهة التهديدات التي تمثلها الجماعات الجهادية.
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات