يعاني أهل الموتى في العاصمة السورية دمشق من الكلفة المرتفعة لأسعار القبور في المدينة. كأنّ ألم موت الأحبّة لا يكفيهم، فينشغلون في البحث عن طريقة ومكان لدفنهم، قبل أن يستوعبوا خبر رحيلهم حتى.
تتفاوت أسعار القبور في مقابر المدينة، وتتعدى أسعار بعضها 100 ضعف متوسط دخل الفرد في سورية. يتجاوز ثمن القبر في مقبرة الدحداح في العاصمة 3 ملايين ليرة سورية (6 آلاف دولار أميركي)، بينما لا يتعدى متوسط دخل الفرد الشهري في سورية 60 دولاراً. أما في مقبرة باب صغير، وباب شرقي المسيحية، فيصل إلى نحو 3 آلاف دولار. وتترافق تكاليف القبر مع تكاليف أخرى تتضمن أجرة حفره وتبليطه وتحجيره ونقل الجثمان.
يقول محمد، وهو أحد سماسرة القبور في دمشق، في اتصال هاتفي مع “العربي الجديد”: “ليس هناك سعر موحد للقبور. سعر القبر يختلف بحسب المنطقة. قبر الدحداح ليس كقبر كفر سوسة. كلّ له سعره. وبحسب ما يتوفر لديك من مال نختار المنطقة. إن لم تكن من أصحاب الملايين فعليك بشراء قبر خارج دمشق”.
أم أحمد فقدت والدتها منذ مدة قصيرة، تسخر من الوضع: “الموت مكلف هذه الأيام.. لم نستفق من مصيبة فاتورة المستشفى الباهظة حتى صدمنا بأسعار القبور وتكاليف الدفن. احتفظت والدتي بسوارين من الذهب في يدها لسنوات، كانت تقول لنا إنّهما ثمن قبرها. لكنّ ثمنهما بالكاد غطى تكاليف الأدوية والكفن”. تضيف: “بالرغم من أزماتنا المالية لم نستدن من أحد يوماً، لكننا اضطررنا هذه المرة من أجل ثمن القبر. المشكلة أنّ الدفن أمر محتم لا يمكن تأجيله أو التغاضي عنه”.
أما حسام فيقول إنّ “مقابر الدحداح وباب صغير والشيخ سعد هي للأغنياء فقط. توفيت أختي بمرض السرطان منذ أشهر، ولجأنا إلى مقبرة نجها في ضواحي دمشق وهي الأقل كلفة. لكنّ الأمر كان معقداً، فقد طلبوا منا إذناً من المحافظ، وبياناً بأوضاعنا المالية، وتزكية من إمام الجامع. بعد جهد حصلنا على الموافقة بعد ثلاثة أيام، واضطررنا أن نبقي جثمانها في براد المستشفى طوال هذه المدة. لم يكن لدينا خيار آخر”.
لا تتطابق تسعيرة القبور في العاصمة التي أصدرها المكتب التنفيذي لمحافظة دمشق مع الواقع. ففي هذه التسعيرة الرسمية لا يتعدى سعر قبر الدرجة الممتازة 24 دولاراً. وتتدنى لتصل في الدرجة الثالثة إلى 12 دولاراً.
يقول عباس المراد (56 عاماً) وهو تاجر من دمشق: “عملت سابقاً في بيع الأكفان لمكاتب دفن الموتى، لم تكن أسعار القبور في المدينة مطابقة أبداً للأسعار الحكومية. المشكلة الأساسية أنّ مساحة المقابر داخل المدينة محدودة، وممتلئة بالقبور، ولا يمكن توسعتها لأّنها محاطة بالأبنية السكنية. لكنّ هذا الفارق بات كبيراً بسبب الحرب إذ استغلت هذه المكاتب والمسؤولون عن المقابر وأصحاب المقابر القديمة كثرة الموتى ليرفعوا أسعار القبور. هذه التجارة ليست خافية على أحد والحكومة تتغاضى عنها ككلّ الانتهاكات الأخرى التي يتعرض لها السوريون”. يعلق “نموت بطلقة ثمنها 100 ليرة وندفن بمليون ليرة”.
يشير المراد إلى أنّ “العديد من العائلات التي تمتلك قبراً لأحد أجدادها تتاجر به اليوم. فتبيعه بعقد رسمي لذوي أحد المتوفين الجدد بسعر باهظ. كما يورثه البعض إلى ميت جديد في العائلة، فيدفن في المكان نفسه بعد بناء طبقة إسمنتية إضافية فوق القبر القديم”.
تقول حسناء الحوراني، وهي سورية مقيمة في تركيا: “كانت مفاجأتي كبيرة حين علمت بدفن ابن أختي في قبر مؤجر في دمشق. تلقت عائلة أختي خبر مقتل ابنها في المعتقل، فباعت منزلها ودفعت رشوة إلى الأمن لتحصل على جثمانه كي لا يدفن في مكان مجهول. لكنّها لم تتمكن من شراء قبر له، فاستأجرته بنصف مليون ليرة سورية لسنة واحدة. وذهبت بما بقي معها من مال إلى لبنان. لا يحدث هذا إلا في سورية”. تضيف: “ما يؤسفني أنّ العائلة لا تملك أيّ ورقة تثبت أنّ هذا القبر لابنها، ويمكن للحفارين أن يتصرفوا بالقبر كما تصرفوا بغيره”.
هذا الأمر يؤكده عبد الرحمن السيّاف، وهو فلسطيني يعيش في دمشق: “منذ بدأت الحرب، يتاجر أشخاص مستغلون بكلّ شيء، من الكهرباء والماء والغاز إلى القبور. استأجر أولاد أخي قبراً موقتاً لأبيهم، ريثما يستطيعون جمع ثمن قبر. عاش كلّ حياته في دمشق، ولم يشاؤوا أن يدفنوه خارجها. إيجار القبر الذي دفعوه أكبر من إيجار بيوتهم”.
التكاليف الباهظة اضطرت كثيرين إلى تجنب تكاليف مراسم العزاء التقليدية، والاقتصار على استقبال المعزين المقربين في البيوت. يقول السيّاف: “أرخص صالة عزاء تبلغ كلفتها 800 دولار، حتى تلك التابعة للمساجد. اضطررنا إلى استقبال المعزين في بيوتنا. وتجنب كثيرون المجيء إلينا بسبب ضيق المكان”.
العربي الجديد