في الثامن والعشرين من سبتمبر/أيلول من العام 2000، اقتحم شارون باحات الأقصى بحماية نحو ثلاثة آلاف من عناصر الشرطة الخاصة والحراسات الشخصية، وتجول هناك، في وقت كان آلاف الفلسطينيين في انتظاره، من بينهم نواب في المجلس التشريعي ومسؤولون أمنيون، ورجال الوقف الإسلامي. واندفع هؤلاء باتجاه شارون، واعترضوا سبيله، قبل أن يشتبكوا مع أفراد حمايته، فسقط بداية العشرات من الجرحى بينهم النواب في “التشريعي”: أحمد هاشم الزغير، وحاتم عبد القادر، وتوفيق الطيراوي، ومحمود العالول.
ومع اشتداد المواجهة، وفي محاولة لتأمين خروج شارون سالماً من المكان، شرع الجنود بإطلاق الرصاص الحي، ما تسبب بسقوط المزيد من الجرحى، غير أن سقوطهم لم يخمد حدّة المواجهة، التي تفجرت في اليوم التالي على شكل مواجهات عنيفة انطلقت من ساحات الأقصى.
حينها، لم يبخل جنود الاحتلال بالرد على الغضب الفلسطيني، بالرصاص الحي، فارتقى عدد من الشهداء وسقط المزيد من الجرحى، ثم لم تلبث المواجهات أن امتدت إلى شوارع البلدة القديمة في القدس وأزقتها، واتسع نطاقها لاحقاً إلى الأحياء المتاخمة للمدينة المقدسة، ومنها امتدت شرارتها إلى مدن الضفة الغربية.
أحداث مؤلمة ومُشرفة في آن، يسترجعها، اليوم، الشيخ محمد حسين، خطيب المسجد الأقصى آنذاك، وكيف أنه حاول تجنب إراقة دماء المصلين بإطلاقه دعوات تطالب قوات الاحتلال بالتوقف عن إطلاق الرصاص الحي، ومغادرة الساحات، إلا أن جنود الاحتلال واصلوا تغوّلهم على المصلين، وكان الرصاص يأتي من أكثر من مكان، خصوصاً من على أسوار المسجد الأقصى وجدرانه الغربية التي اعتلاها الجنود.
يتابع حسين، في حديثه لـ”العربي الجديد”: “كان ما حدث مجزرة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فالجرحى كثر، والشهداء كانوا يحملون على حمالات الإسعاف، التي تعرضت طواقمها للاعتداء من قبل جنود الاحتلال، وقد تلقينا كميات كبيرة من الغاز وأصبنا بالاختناق كما جموع المصلين الآخرين”.
وفي يوم اقتحام شارون للأقصى، بقيت بعض الصور عالقة في الأذهان، كتلك التي ظهر بها مسن مقدسي بعكازته، وهو يقترب من شارون ويصرخ في وجهه طالباً منه مغادرة المسجد، ذلك المقدسي يدعى حمد دياب (أبو رأفت)، من حارة السعدية بالبلدة القديمة.في حين يذكر النائب أحمد هاشم الزغير، تقدم شارون في اليوم الذي سبق ارتكاب المجزرة باتجاه المصلى المرواني، وكيف تصدى المصلون له هناك، ويقول لـ”العربي الجديد”: “لقد دافعنا عن المكان بأجسادنا، فاعتدوا علينا، وكان إلى جواري النائب حاتم عبد القادر، الذي لم يسلم هو الآخر من الاعتداء، ودفعوني أرضاً فسقطت عن درجات المصلى، بينما كان المصلون يطلقون هتافات التكبير والغضب تنديداً بشارون وجنوده. لقد كان همّنا تقديم الإسعاف لمن سقطوا جرحى وكانوا بداية بالعشرات”.
بيد أن اليوم التالي لاقتحام شارون للأقصى، كان أكثر دموية، وفجر غضباً فلسطينياً عارماً، يقول حاتم عبد القادر، الذي كان متواجداً مع جموع كبيرة من المواطنين، لـ”العربي الجديد”، إن مشاهد تدنيس شارون للأقصى وحجم وأعداد الجنود الذين رافقوه، كان سبباً في اشتعال غضب المقدسيين على وجه الخصوص، “وما إن انتهت الصلاة، حتى بدأ الشبان الغاضبون بإطلاق هتافات التكبير، واندفعوا بقوة حيث جنود الاحتلال تموضعوا قرب باب المغاربة، وبدأ مطر الحجارة يسقط عليهم، قبل أن يغالبه أزيز الرصاص المنطلق من كل ناحية”.
ويضيف عبد القادر: “مع ذلك، كانت دعوات الاستغاثة تنطلق من مكبرات الصوت تدعو المواطنين خارج البلدة القديمة لنجدة إخوانهم داخل لأقصى، وكان الشيخ محمد حسين يوجه كلامه لجنود الاحتلال قائلاً أوقفوا إطلاق النار، أوقفوا إطلاق الرصاص”.
ويتابع: “كان يوماً مشحوناً بالغضب الشديد، وكانت الدماء التي نزفت في الساحات وضرجت باحات الأقصى شاهداً على مرحلة جديدة، أطلقت بعدها شرارة الانتفاضة الثانية التي حصدت أرواح أكثر من 4400 شهيد وعشرات آلاف الجرحى على مدى أكثر من خمس سنوات من اندلاعها”.
ويؤكد أنه “في ذلك اليوم، ارتقى في القدس وحدها 7 شهداء ونحو 300 جريح، جلهم ارتقوا في ساحات الأقصى وبعضهم داخل أسوار البلدة القديمة وفي محيط مستشفى المقاصد، إذ انتقلت المواجهات إلى هناك، وكانت عنيفة جداً، واستهدف جنود الاحتلال خلالها المستشفى بكميات كبيرة من قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، موقعين مزيدا من الجرحى”.
ومع مرور ستة عشر عاماً على تدنيس شارون للأقصى وارتكاب قوات الاحتلال مجزرة الأقصى الثانية، تبدو الصورة أكثر ضبابية في ما يتعلق بالأخطار المحدقة بالمسجد، وتنامي قوة ونفوذ الجماعات اليهودية التي تستبيحه كل يوم بمشاركة آلاف الجنود من مختلف التشكيلات العسكرية، وانضمام قطاعات جديدة من المجتمع الإسرائيلي لهذه الجماعات المتطرفة التي بدأت تتهيأ لمرحلة ما بعد هدم الأقصى وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه، كما يقول الشيخ عكرمة صبري، رئيس الهيئة الإسلامية العليا، لـ”العربي الجديد”.
ويؤكد صبري أن الحكومة الإسرائيلية بكل أركانها تتفق على هدف واحد وهو استهداف الأقصى والنيل منه، محذراً من أن الأقصى بات في دائرة الخطر الشديد، والاحتلال لن يتردد في ارتكاب مجزرة أخرى ضد المصلين إن رأى أنها تقربه من هدفه وهدف مستوطنيه في السيطرة على المسجد وبناء هيكلهم المزعوم.
العربي الجديد