تشهد ساحة الباستيل في باريس يوم السبت القادم تظاهرة سورية فرنسية من أجل المعتقلين السوريين تحت عنوان “المعتقلون أولاً”، تُرفع خلالها صور ألف معتقل من أصل أكثر من مئتي ألف وثّقت منظمات حقوقية دولية ومحلية اعتقالهم في سجون النظام، فضلاً عن عدد محدود في سجون بعض أمراء الحرب. المبادرة أتت أولاً بجهد متميز ودؤوب من الممثل السوري المعروف فارس الحلو، وسترافق التظاهرة الأساسية فعاليات مختلفة غايتها التركيز على قضية التغييب القسري في سوريا، بوصفها أساساً لنهج الزمرة الحاكمة قبل الثورة وأثناءها، الأمر الذي ينبغي أن يُخرجها من المساومة أو من طائلة التعاطف الإنساني البسيط الذي يعتبرها شأناً ثانوياً في الحرب الحالية.
لاختيار ساحة الباستيل رمزية واضحة، على رغم أن الكثيرين من الناس لا يعلمون أن عدد السجناء في ذلك السجن “الرهيب” كان سبعة فقط يوم اقتحامه وتحريره، بل إن عدد السجناء المسجلين خلال مائة وثلاثين سنة سبقت الثورة الفرنسية بلغ /5279/ سجيناً، الرقم الذي سيقهقه أمامه طاغية مثل بشار ابن أبيه، نيابة عن الأخير أيضاً. الباستيل أقيم بدايةً كحصن للدفاع عن باريس إزاء الاعتداء الخارجي، ثم استُخدم كسجن عسكري قبل استخدامه كسجن سياسي، وهو في مساره هذا يلخّص كيفية تحول المسألة الوطنية إلى سجن لأبناء الوطن عندما يستثمرها طغاة “نبلاء” مثل لويس الرابع عشر، الذي بدأ في عهده تحويل الباستيل إلى سجن سياسي، لكنهم طغاة “صغار” بالقياس إلى قادة الجمهوريات العربية.
قد نتذكر، من باب الإحباط، أن صور ما عُرف بقضية سيزار عن الاعتقال في سوريا لم تحرّك الرأي العام العالمي، على رغم احتوائها على حوالي 46 ألف صورة لحوالي 11 ألف معتقل قُتلوا تحت التعذيب. لكن، مع الأسف، ما يُضعف قضية سيزار أنها بقيت صوراً لكائنات جُوّعت حتى صارت هياكل عظمية، وفقدت ملامحها قبل الموت، وعلى رغم فظاعتها إلا أنها تخص أناساً أصبحوا في عداد الميتين، ولن يعيدهم أي جهد إلى الحياة. نقطة الضعف أن أية جهة سورية لم تشتغل، بالتوازي مع قضية سيزار، على إثارة صور المعتقلين الواقعين تحت تهديد الموت تعذيباً في أية لحظة، والتعامل معهم كأشخاص وذوات لا كأرقام.
لبيان أهمية ملف الاعتقال نشير إلى أن نظام الأسد، في عهدَي الأب والابن، لم يبادر مرة واحدة إلى إعلان تبييض السجون، وذلك لا يتعلق بنفيه المتكرر وجود معتقلين سياسيين للحفاظ على سمعته. المسألة ببساطة تتخلص في أن الإعلان عن تبييض السجون يقتضي إجابة أهالي المعتقلين كافة عن مصير أبنائهم، وتالياً الكشف عن مصير أولئك الذين ماتوا تحت التعذيب، أو أُعدموا بمحاكمات ميدانية شكلية خارج القانون، بما فيه قانون محكمة أمن الدولة سيء الصيت. ومع أن جزءاً أساسياً من مهمة أطباء السجون كان في كتابة تقارير وفاة كاذبة لمن أُعدموا، أو قتلوا تحت التعذيب، إلا أن النظام يدرك عدم أهمية تلك التقارير الكاذبة لدى الرأي العام المحلي والخارجي.
هو ملف عزيز جداً على النظام، إلى درجة كان مستبعداً فيها تماماً أن يقوم بشار، وقت كان يزايد على السوريين بريادته الإصلاح، بالكشف عنه على رغم استعداد أهالي الضحايا آنذاك للتسامح من أجل طي صفحة الماضي. حتى انسحاب قوات النظام من لبنان قد يكون أقل أهمية له من الكشف عن مصير الضحايا اللبنانيين في المعتقلات السورية، وكما نعلم باءت كل المحاولات اللبنانية لمعرفة مصير المئات منهم بالفشل، بما فيها محاولات قامت بها شخصيات لبنانية مقربة من النظام.
قد نقول الكثير اليوم عن جرائم النظام الموصوفة كجرائم حرب، ومن ذلك استهداف المدنيين والمنشآت الطبية والخدمية أو استخدام الأسلحة غير الموجّهة، غير أن نوعية هذه الجرائم تختلف تماماً عن الجرائم المنظمة المرتكبة في السجون. ففي السجن ليس أمام المعتقل فرصة للهرب أو الدفاع عن النفس، والجريمة في حقه مضاعفة بقدر ما هو أعزل، ولا يخفى أن الاعتقال والتعذيب أو التعذيب المفضي إلى الموت أساليب ممنهجة ومدروسة، وأهم مما سبق هي أساليب معمول بها بتوجيهات مركزية عليا يُسأل عنها رأس النظام مباشرة، بصفته المشرف المباشر على عمل أجهزة المخابرات.
كمثال على القتل الممنهج يُتوقع الآن، أثناء كتابة هذه السطور في مستهل شهر رمضان، أن يكون سجانو النظام قد باركوا للمعتقلين قدومه على طريقتهم، أي باختيار ما بين ثلاثة إلى خمسة أشخاص من كل مهجع وتعذيبهم بشكل يفضي إلى الموت. هذا ما تأكدنا من حصوله في عيد العشاق (الفالنتاين) عام 2014، على سبيل المثال، إذ طلب الجلادون ترشيح خمسة معتقلين من كل مهجع لاستلام هدية العيد، التي تعني تعذيباً حتى الموت أو ما يُقاربه، وكانت حصيلة “المعايدة” آنذاك ما بين 150 و200 قتيل.
مع ذلك، المعركة من أجل المعتقلين لا تتوقف عند إنقاذ الأحياء منهم فحسب، لأن إنقاذ الأحياء لا بد أن يتضمن الكشف عن مصير القتلى، ولأن الأحياء سيفضحون ما تعرض له زملاؤهم الموتى. الكشف هنا، وهذا ما يعيه النظام، يعني محاكمة النظام على جرائم يصعب التنصل منها، ويصعب تحميل مسؤوليتها لمستويات دنيا منه. هي جرائم لا يمكن تبريرها أمام أي رأي عام، كما هو الحال أمام رأي عام مساند لبشار الآن، يتلطى خلف كونها حرباً “ولم تكن ثورة” لها تحالفاتها الدولية والإقليمية، ويزعم تساوي جميع أطرافها في انتهاك مواثيق الحرب.
المعتقلون أولاً، قد يشوب هذا العنوان شيء من المبالغة، بخاصة لأن أخبار الحرب على أكثر من جبهة تطغى على معاناة المعتقلين وأهاليهم. لكن أولاً هنا تضمر المضي أبعد من الحد المباشر للتعاطف، ومن المتوقع أن منظمي الحملة على دراية بأن نجاحها النهائي رهن باقتحام الباستيل السوري الكبير
المدن