صحيح أن “تفاهة الخير” لا تؤدي كما “تفاهة الشر” إلى معسكرات اعتقال وغرف غاز، لكنها تحول دون إيقاف ما يشبه هذه المعسكرات والمعتقلات.
تتكرر الخصومات بين قادة المعارضة السورية، وفي كل مرة، يُفصح الإعلام عن أسباب شخصية وأخرى تتعلق بالصراع على المناصب، مسرّباً تفاصيل عن شتائم وسُباب، وأحياناً عراك بالأيدي وصفعات. وآخر المنازلات، ما وقع راهناً، حيث شتم رئيس الحكومة الموقتة، عبد الرحمن مصطفى، رئيس الائتلاف، نصر الحريري، لرفض الأخير مصافحته خلال عزاء.
وسريعاً، خرجت، تحليلات تمدّ الواقعة بأبعاد تتعلق بالصراعات على النفوذ داخل ما تبقى من هياكل المعارضة، ما جعل ما حدث، أقرب إلى التأرجح بين الشخصي المتعلق بـ”الكرامة” بمعناه التقليدي، حيث ربط الإهانة بعدم المصافحة، وبين التسابق على “النفوذ”، المنفصل عن السياسة، بوصفها تسيير أحوال الناس، لا سيما المعارضين الذين كانوا يطمحون إلى التغيير. والأمران غير منفصلين عن بعضهما بعضاً، ذاك أن النفوذ الخالي من البعد السياسي والذي يترجم في مناصب تابعية أصحابها تعود إلى الدول الممولة، يغدو أقرب إلى الوجاهة، وهو ما يلتقي مع الدفاع عن “الكرامة” التي يجرحها عدم المصافحة، لا انعدام الفاعلية وتحقيق الأهداف. وعلى رغم أن السياسة المنفصلة عن وظيفتها لدى المعارضة أشبعت نقداً، إلا أن هذا النقد تغافل عن العلاقة مع الشخصي وتجسيداته غير الحديثة في تاريخ السوريين.
وسيرتا الحريري ومصطفى، المنشورتين في موقع الائتلاف، تخلوان من تاريخ يتعلق بمعارضتهما النظام انطلاقاً من انتماء يساري أو إسلامي أو قومي، أي من معارضة إيديولوجية، إذ ينتمي الأول إلى “الحراك الثوري”، هو في عمقه مرآة لما هو جهوي ومناطقي، والثاني ينتمي إلى تنظيمات تركمانية، فإن التركيز على الشخصي، يصبح مبرراً لفهم سلوكهما.
والمقصود بالشخصي، ليس الهوى والمزاج والميل والطبع والعلاقات، بل فشل عملية بناء ذات حديثة وفاعلة، عبر أخذ مسافات أو إقامة تسويات تضعف العائلة والعشيرة والطائفة، وسواها من التراكيب التقليدية، ومقاطعة حالة الحريري ومصطفى مع التجربة العامة للسوريين في هذا الإطار، انطلاقاً من تحكم الاستبداد.
تجارب شتى يمكن رصدها لذوات حديثة تشكلت في ظل الاستبداد، لكن هذه تبقى استثناء. الاستبداد يحتجز الفضاء العام ويمنع السياسة باعتبارها فعلاً يمارس القمع، وفي الوقت عينه، يمنح التراكيب ما قبل الدولتية، امتيازات وهوامش، خصوصاً على مستوى الزعامات، أي التحكم بهذه التراكيب، وضبطها كي لا تصبح مصدر تهديد.
ما يعني أن السوري الباحث عن تكوين ذاته، كان ضحية، تحطيم كل أشكال التنظيم الحديثة من نقابة وحزب ومجتمع مدني، وضحية التأرجح في موقعه داخل العشائر والطوائف وسواها، من دون أن تكون الأخيرة حامية بالمطلق له، أو تقدّم له مجالاً للفاعلية، بحكم تقنين قوتها من قبل النظام.
وعليه، فهو ذرة من ذرات، على ما شرحت الباحثة حنة أرندت الظروف التي مهدت لنشوء التوتاليتارية في ألمانيا النازية في الثلاثينات، مع فارق، أن التشكيلات التقليدية تفتح ذراعيها له، من دون فاعلية سياسية بحكم سطوة النظام، ما يجعله مفرغاً من السياسة، وقابلاً للتعبئة قيمياً، بما هو تقليدي، أي يصبح الشخصي، انعكاساً للعشيرة والطائفة، وليس تكويناً حديثاً للذات.
هكذا ينفتح فراغ السياسة على فراغ الشخصي، لدى المعارضين السوريين أبطال واقعة المصافحة، لينوبا، بذلك عن وعي معارض جزئي، نشأ عقب الانتفاضة، أبرز سماته، التخفف من الإيديولوجيات، أي من أي وعي يمس الحداثة، ولو بقدر ضعيف. وكذلك، التقاطع مع نتائج تلك الاستحالة، في بناء السوري الذي يمتلك وعياً حديثاً حيال ذاته والعالم.
وبدهي أن رفض المصافحة وما تبعه من شتائم، هو دراما جذابة، لتمظهر فراغ الإيديولوجيا والسياسة وانقطاع الصلة بالحداثة. لنصبح حيال معارضين لا يختلفون بالأفكار والاستراتيجيات والسياسات، بل يختلفون، انطلاقاً من تلك الانقطاعات في تكويناتهم.
وإن كانت أرندت تحدثت في معرض تشريحها محاكمة المسؤول النازي أدولف إيخمان، عن ” تفاهة الشر”، جاعلة من الجلادين، أدوات أو حلقات ضمن آلية متكاملة للشر، تنزع من الأفراد إرادتهم، فإن بعض المعارضين السوريين وبحكم أن علة وجودهم تتعلق بإسقاط نظام له بعض النزعات التوتاليتارية، يصح وصف سلوكهم بـ”تفاهة الخير”، أي تحويل المعارضة الساعية إلى إسقاط الاستبداد، إلى آلية، وتسليم الإرادات، للدول المتحكمة بالملف السوري.
صحيح أن “تفاهة الخير” لا تؤدي كما “تفاهة الشر” إلى معسكرات اعتقال وغرف غاز، لكنها تحول دون إيقاف ما يشبه هذه المعسكرات والمعتقلات.
نقلا عن موقع درج