لأسباب عدة أهمها غياب السياسة وتحريم العمل العام، وما يعنيه من غياب للفكر النقدي، يلجأ المواطنون العرب إلى نظرية المؤامرة لتحليل كل الظواهر السياسية في العالم، مرتكزين على نظريات جاهزة غربية المنشأ تتداولها فئة صغيرة في الغرب، إضافة لنظريات الأنظمة العربية التي تستخدمها كشماعة لتعليق كل المشاكل عليها، وتأجيل كل الإصلاحات بسببها.
نظرية المؤامرة تسطيح للعلوم السياسية والعلاقات الخارجية وتبسيط لها، وتعمل على تصوير المتآمر بشكل شيطاني ميتافيزيقي يجعله قادراً على فعل كل شيء، لتصبح خطط المتآمر الضاربة في القدم أشبه بأقدار لا يمكن لأحد الانفكاك منها إلا بالموت أو «الشهادة».
تتركز غالبية نظريات المؤامرة على فكرة وجود قوى خفية تسيطر على العالم. فأميركا، مثلاً، ليست دولة تحكمها سلطاتها الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، بل مجموعة سرّية من اليهود والماسونيين.
صحيح أن الجماعات الضاغطة واللوبيات العرقية تمتلك تأثيراً لا يستهان به على صنع القرار في الولايات المتحدة، إلا أن القرار الأميركي لا تختصره هذه الجماعات. كما أن عملها شفاف وواضح، لا يمكن إخفاؤه. فعملية صنع القرار تدخل في مراحل واضحة وشفافة يراقبها الشعب والإعلام، كما تراقب السلطات الثلاث بعضها بعضاً وفق ما يعرف بمبدأ «الضوابط والتوازنات» بين السلطات.
تستخدم القوى الرجعية في العالم العربي، سواء كانت أنظمة تحكم شعوبها بطريقة استبدادية أو منظمات ما دون الدولة كـ «داعش» و»النصرة» و»حزب الله»، نظرية المؤامرة عقيدة لفرض حكمها. فالمتآمر هو الشر المطلق، ما يعني أن المتآمَر عليه (الحاكم) هو الخير المطلق. وتغيب كل البرامج التوعوية الهادفة إلى تثقيف الشارع وإطلاعه على الحقائق بلا تحيّز، كما يُفتقر إلى المنابر التي تقدم الشروح الواقعية للعلاقات الدولية وسياسات الدول. حتى الأكاديميا، يغلب عليها الطرح المؤامراتي، وإن بحدّة أقل.
ربما كان المقدِّم التلفزيوني باسم يوسف مَن شكّل وحده ظاهرة مهمة أخذت منحىً شعبياً في مجابهة نظرية المؤامرة، بطريقة تجنبت القالب النخبوي المتعالي، بل اعتمدت السخرية بوصفها الأسلوب الأكثر تأثيراً. والسخرية تعني، في هذا السياق، استخدام خفة الدم والتسخيف والتضخيم الكاريكاتوري لنقد المسلمات وإظهار حماقة مضمونها. فهي تجرد المستهدف من عرشه ونياشينه وهالته الإلهية، لتؤنسنه وتفكك أجزاءه التي لا تراها نظرية المؤامرة.
سوريّاً، يؤمن الموالون بأن ما يجري في بلدهم مؤامرة كونية، تشترك فيها الدول الغربية وإسرائيل و»داعش» والدول العربية، بينما يرى المعارضون مِن المعتدلين أنّ ما يجري مؤامرة يشترك فيها النظام والدول العربية و»داعش» وإسرائيل وإيران وروسيا وأميركا. ويرى «الدواعش» وأنصار تنظيمات الإسلام السياسي أن كل المذكورين أعلاه يتآمرون بكل إصرار وتصميم عليهم، بالتعاون مع منظمات إسلامية ضلت الطريق وابتعدت عن المنهج. كما يشترك كل هؤلاء بفكرة أن «القوى الخفية» تسعى إلى تقسيم بلادهم وتشتيتها. فالقوميون العرب يرون أن التقسيم هو لمنع العرب من الوحدة، والإسلاميون يرونها لمنع المسلمين من نشر دينهم الذي سيسيطر على العالم لو أتيح ذلك.
الوقائع التاريخية تقول عكس ذلك: فلم تعمل الدول الغربية، أقله في الوقت الحالي، على تقسيم الدول، بل سعت إلى الحفاظ على الحالة الراهنة أو «الستاتوس كو» لما يشكله من استقرار لا يهدد أمن الدول الغربية ومصالحها. وهي، مثلاً، تقف في شكل قوي ضد أي محاولة يقوم بها الأكراد تحمل نزعات استقلالية، كما رفضت الاعتراف بكل المساعي الهادفة لتحقيق أي نوع من الحكم الذاتي لهم، وعملت دائماً على تقريب وجهات النظر بين كل الأطراف، في شكل دفع منظّري المؤامرة عند الطرف الكردي للإيمان بأن ما يجري مؤامرة عالمية على الكرد انتقاماً مما فعله الكردي صلاح الدين الأيوبي بالصليبيين.
سيطرة نظرية المؤامرة على الفهم السياسي أثّرت وبشدة في العمل السوري المعارض، ونتج من هذا لقاءات كارثية جمعت معارضين بساسة أميركيين وغربيين. ففي لقاء ضمّ منظمات يهودية أميركية متعاطفة مع القضية السورية بمعارضين سوريين، طلبت هذه المنظمات من المعارضين تزويدها بمجموعة نقاط للعمل عليها، فكان طلب غالبية المعارضين يومها: «نريد من نتانياهو أن يتصل بأوباما ويطالبه برفع الغطاء عن الأسد، فلو حصل هذا، لتمكّنا من إسقاط الأسد بيومين»! حصل هذا في الوقت الذي كانت العلاقة بين أوباما ونتانياهو في أسوأ حالاتها!
إن التأثر بنظرية المؤامرة أدى إلى تعزيز الكسل وتغييب العقل وإرسال التخطيط عند المعارضين في إجازة مفتوحة. فما حاجة التخطيط في مواجهة الأقدار التي يرسمها المتآمرون ويتحكمون بكل مفاصلها!؟
الحياة – عهد الهندي